حوارات

الحوارات التي أجريت معي :

1  


جلال زنكَابادي :
تظل الكتابة الإبداعيّة أخلد ممّا عداها

 حاورته : سوزان سامي جميل
  
 جلال حسين محمد أمين (1951- كردستان العراق) : أديب ومفكّر عراقي ، يكتب باللغتين العربيّة والكرديّة ، ويترجم إليهما عن : الفارسية (= التاجيكيّة) ، الإنكَليزية ، الإسبانية ، التركيّة والتركيّة الآذرية... وهو عصاميّ النشأة ، تثقيف ذاتي موسوعي . عمل معلّماً في التعليم الإبتدائي (1971- 1991) ثمّ في الجرائد والمجلات محرراً ، مشرفاً ثقافياً ولغوياً ، في الأقسام والملفات الأدبية والفنية والثقافية ، وسكرتيراً ومديراً ورئيساً للتحرير لبضع مجلات في كردستان العراق .  راجع ونقّح المئات من النصوص الأدبية والبحثية والكتب المؤلفة والمترجمة لأدباء وباحثين كرد وعراقيين ومنهم أساتذة جامعيون . صدر له منذ 1994 عشرون كتاباً ورقيّاً وأكثر من عشرة كتب مؤلّفة ومترجمة على صفحات المجلاّت بمثابة (كتاب العدد) وعلى صفحات النت ، وله قيد النشر أكثر من (10 كتب)...
  إلتقته مندوبة موقع (سطور) عبر (جات الفيسبوك) وحاورته - على دفعات -  بصفته شاعراً ، مترجماً وباحثاً...ثمّ راجع الحوار (مشكوراً) وهنا نقدمه بدورنا إلى روّادنا الأكارم ورائداتنا الفاضلات ؛ متوخّين الإطلاع على آرائه المتميّزة :  
* لماذا تكتب ؟
- بما أن " الإنسان هو الكائن الوحيد الذي يقاوم الموت بكل أشكاله ، وهو الذي يواجهه الموت بكل أشكاله المختلفة ، ويؤكد مجد الحياة والعقل والحرية ؛ بما يبنيه من حضارة وما يبدعه من فن وأدب ، وكأنه كائن يتحدى الموت دائماً ، وكأنه يقول للوجود : إذا كنت سأنتهي للعدم لكنني لست عدماً ؛ وسأترك ما يدل على وجودي " حسب تشخيص أستاذ الأجيال وصديقي العلاّمة عبدالغفار مكّاوي (1930- 2013) ؛ فقد وعيت ذاتي واكتشفت نفسي مبكّراً جدّاً بصفتي إنساناً لابدّ له من أن يخلّف أثراً لماهيّة وجوده في الوجود حاضراً ومستقبلاً...وهكذا أثر ينطوي على موقفي من الوجود في الوقت نفسه . وطبعاً يعبّر الإنسان عن وجوده بشتى الأفعال : يحب ، يكره ، يمارس الجنس ، ينجب ، يضحك ، يبكي ، يغني ، يرقص ، يغضب ، يتمرّد ويثور...لكنما يظل فعل الكتابة الإبداعيّة أخلد ممّا عداه ، وقد تجلّى هذا منذ اجتراح الكتابة قبل آلاف السّنين لحد الآن ، وسيدوم حتى انقراض كوكبنا المبتلى بأنانيّة وحماقات معظم الساسة ، وجرائمهم المتمادية بحق البشريّة والطبيعة...
  إن ما سلف يعلّل "لماذا أكتب" ولكن هذا السّؤال وجوابه متواشجان جدليّاً مع سؤالين آخرين هما : " ماذا نكتب؟" و "لمن نكتب ؟" وهي الأسئلة الشهيرة التي طرحها الفيلسوف سارتر(1905- 1980) في كتابه المهم (الأدب الملتزم) والتي سبقه برتولد بريخت (1898- 1956) بطرحها مع أجوبتها سنة 1935 في مبحثه المركّز (خمس صعوبات عند كتابة الحقيقة) وللأسف لامجال هنا للإجابة عن السؤالين المكمّلين .   
* بصفتك شاعراً بلغتين ، مترجماً عن بضع لغات ، ناقداً أدبيّاً وتشكيليّاً ، وباحثاً في بضعة مجالات ثقافيّة ؛ فأيّ الأجناس أقرب وأحب إلى نفسك ؟    
- أقربها إلى نفسي هو الشعر باللغتين الكرديّة والعربيّة كتابةً وترجمته إليهما عن بضع لغات شرقيّة وغربيّة ، ثمّ كتابة النقد التشكيلي بكلتا اللغتين وترجمته إليهما.....أمّا كتابة وترجمة المقالات والدراسات والبحوث في المجالات الثقافيّة الأخرى (زائداً مجال الفنون التشكيليّة) فهما بمثابة روافد تصب في مصب شعري الذي هو محور اهتمامي منذ 1963 حين كنت تلميذاً في الصف السادس الإبتدائي
* طيّب ...لكن أما كان الأفضل لك أن تركّز اهتمامك على الشعر وحده ، وتتفادى التشتت ؟!
- لم ولن يوجد شاعر مبدع كبير غير موسوعيّ الثقافة ، ابتداءً من المؤلّف المجهول لـ (ملحمة كَلكَامش) مروراً بأوفيدوس ، لاوتزي ، المعرّي ، الخيّام ، شوتا روستافلي ، مولانا جلال الدين ، دانتي ، حافظ الشيرازي ، الملا الجزيري ، احمد خاني ، بيدل دهلوي ، بوشكين ... حتى إقبال ، إليوت ، ناظم حكمت ، أوكتافيو باث ، احمد شاملو، كلارا خانيس وأدونيس...
* لكن أما ترى بأن رامبو (مثلاً) ينقض طرحك هذا ؟!  
- ليس ثمّة نقض ؛ لإن رامبو وآخرين قلائل جدّاً بمثابة إستثناءات في القاعدة أعلاه ، بل حتى رامبو ، رغم صغر سنّه ، كان ذا ثقافة واسعة مقارنةً بأكثر مجايليه ومعاصريه ؛ فقد تثقف على مكتبة والده المثقف ؛ ويتجلّى ذلك في العديد من قصائده ...
واستكمالاً لجواب السؤال السابق ؛ أقول : لم ولن أشعر ذات يوم بأيّ تشتت ، بل أجد تكامل كياني الثقافي في هذا (التشتت!) حيث أحسب الترجمة والبحث فنّين ، بل علمين إبداعيين لايقلاّن شأناً عن الإبداعات الأدبيّة والفنيّة...وفي رأيي لم ولن تحيَ ثقافات الأمم والشعوب بالشعر وحده ..وهنا أجدني أبوح أيضاً : لولا كوني مترجماً ومراجعاً لتراجم غيري ، وخبيراً لغويّاً ، ومقاليّاً وباحثاً ومراجعاً لدراسات غيري ؛ لمتّ ومات أطفالي جوعاً...! فثمّة مفارقة عجيبة وغريبة في العالم قاطبة ، ألا وهي رغم تقديس الشعر لدى الخاصّة والعامّة ؛ غالباً ما يجب على الشعراء أن يدفعوا تكاليف طباعة مجموعاتهم ودواوينهم ، ناهيك عن كساد سوق الشعر! بل أينما يوجّه الشاعر وجهه ؛ يسمع من الناشرين وحتى باعة الكتب : " الشعر ما يوكّل خبز !"   
* معلوم أن الشعر ثمرة موهبة (قبل كلّ شيء) والتجارب الحياتية بما فيها العاطفيّة ، ثم الصّقل والممارسة ، وسيرتك طافحة بها ، لكن هلاّ علّلت لنا كيف صرت مترجماً ، خبيراً لغويّاً وباحثاً ؟
- لقد شغفت بالحكاية والشعر حتى قبل دخولي المدرسة ، ورحت ألتهم كلّ مايقع تحت يدي من قصص الأطفال والجرائد والمجلات وكتب الصفوف المتقدّمة ؛ فمثلاً : كنت أقرأ كتب الصفين الثالث والرابع وأنا في الصف الثاني الإبتدائي ، وأقرا كتب الصفين الخامس والسادس وأنا في الصف الثالث ، بل رحت أقرأ كتب المنفلوطي وجبران وسلامة موسى منذ الصف الرابع الإبتدائي ، وبرزت في درس الإنشاء بروزاً مشهوداً ، ثمّ بدأت كتابة الشعر الموزون المقفى في الصف السادس الإبتدائي ، ثمّ راحت دائرة قراءاتي تتوسّع وتتنوّع ، واختزلت العديد من المراحل..ثمّ بدأت نشر قصائدي في النشرات الجداريّة منذ 1966 في دار المعلمين ومعهد المعلمين بكركوك ، وفي جريدة كركوك وملحق جريدة الجمهوريّة منذ 1967 وفي السنة نفسها بدأت قراءة الشعر باللغة الإنكَليزيّة ، ثمّ الترجمة عنها في 1969 وفي خريف 1971 تعلّمت قراءة اللغة الكرديّة (الأدبيّة) وكتابتها والترجمة عنها في أقل من ثلاثة أشهر ، ثمّ تعلّمت اللهجات الكرديّة الرئيسة خلال سنة ، وسرعان ما قادتني الكرديَة إلى تعلّم الفارسيَة في بحر ثلاثة أشهر ، وبعدها تعلمت التركيّة (لكنها ظلّت أدنى من إجادتي للفارسيّة) وحاولت تعلّم الأرمنيّة والألمانيّة والروسيّة والسريانيّة ، لكنني أخفقت ، ومن ثمّ تعلمت الإسبانيّة في (خريف 1995- صيف 1996) علماً باني علّمت نفسي بنفسي اللغات المذكورة وبضعاً اخرى (حدّ القراءة والفهم والإستفادة المعرفيّة دون التمكّن من الترجمة الدقيقة) ولأنني كنت أركز على دراسة قواعد اللغات المذكورة وطرق إملائها ، بل قراءة عشرات القواميس (كما لو انني أقرأ روايات !) ؛ صرت مترجماً ، بل وخبيراً لغويّاً كتحصيل حاصل..أمّا ممارسات كتابة المقالات والدراسات ؛ فقد جاءت نتيجة لتراكم قراءاتي الموسوعيّة من أقصى العلوم الإنسانيّة مروراً بالآداب والفنون حتى السحر والشعوذة ، وهذا يعني أن التراكم الثقافي (الكمّي) يتحوّل ديالكتيكيّاً إلى حال الكيفيّة ، أي يتحوّل القاريء إلى باحث . وقد أنجزت العديد من الدراسات عن ثقافات الشعوب : الأرمن ، البلوج ، التاجيك ، التركمان والباسك...بالإضافة إلى مايتعلق بثقافات الشعوب الإيرانية والتركية الأخرى...فمثلاً : سيبلغ عدد كتبي عن الخيّام وأعماله (وحده) نحو (15 كتاباً) باللغتين العربيّة والكرديّة . 
* كيف تنظر إلى علاقة الواقع والخيال في فضاءات الإبداعات الأدبيّة ؟
- في رأيي لا خيال بتاتاً بلا جذر واقعي وذاكرة قويّة ، ولا إبداع في الأجناس الأدبيّة والفنيّة بدون خيال خلاّق ، ولا خيال خلاّق بدون تآصر الذاكرة والمخيال ، وبدون الوعي المستوعب لمعطيات الواقع ومتغيّراته من قبل ، بل حتى الترجمة والدراسة بحاجة إلى الخيال ؛ ومن هنا فإن إصدار الفتاوى وأحكام التكفير ضد الشعراء والكتّاب والفنانين باطل أصلاً ؛ لأن الأعمال الأدبيّة والفنيّة ليست بلاغات وبيانات سياسيّة أو عسكريّة مدوّنة بدقة منشودة...
* معلوم أن مفهوم الزمن مختلف عند الشاعر والمؤرّخ ؛ فالشاعر يهيم في زمن خيالي حين يكتب شعره ، أمّا المؤرّخ فيستند إلى الزمن الواقعي (الموضوعي) حين يوثّق حدثاً ما ، أو يقدّم صورة قلميّة لعلم من أعلام السياسة أو الثقافة أو المجتمع ؛ والسؤال هل حدث أن تضارب عندك الزمنان ؛ بصفتك شاعراً ومؤرّخاً لأعلام من الكرد وغير الكرد؟
-  لست مؤرّخاً بالمفهوم الإصطلاحي ، ومع ذلك ألتزم بصرامة بالزمن الموضوعي الكرونولوجي عند الكتابة عن أيّ علم في أيّ مجال ، أو عن أيّ واقعة أو حدث في أيّ مضمار ، بل قلّما يوجد كمثلي من يثبت تواريخ الوقائع والأحداث وتواريخ حيوات الأعلام ، أمّا أغلب شعري فيغلب عليه الزمن المطلق بالمفهوم العرفاني الغنوصي المستند إلى الشطح ، وبالأخصّ لكون الـ (أنا) تتماهى في الـ (نحن) وبالعكس ، ويتجلّى بأسطع صوره في كتابي الشعري الإشكاليّ جدّاً (هكذا شطح الكائن مستقبلئذ/ ملحمة مضادّة / خريف 1993) والذي نشرته من جديد في شباط 2013 وثمّة تقديم يستجلي مفهومي للزمن الشعري ، ويتعذر حتى تلخيصه في هذه الفسحة المتاحة .
* هل ثمّة تيّارات حداثويّة في الأدب الكردي المعاصر؟
-  نعم...وهي السّائدة في الفنون الأدبية والتشكيليّة كافة ، أمّا التيّار السلفي فهو ضئيل الحضور جدّاً ويقتصر على الشعر...لكنّما ثمّة حقيقة مريرة ، ألا وهي أن أدعياء الحداثة والمنتحلين لطروحاتها وثمراتها هم الأكثر عدداً ولغطاً في راهن المشهد الثقافي الكردستاني ، وقد سمّيت صنيعهم قبل (14 سنة) بـ (الحداثة الخلّبيّة) ورحت أفضح (الأباطرة العراة) ؛ فنشب بيني وبين بعضهم سجال حامٍ ؛ وسرعان ما أدبروا مندحرين مخذولين ، رغم إستنجادهم ببعض المدرّسين الجامعيين ؛ فأضطرّوا إلى الإستنجاد بالقيادة الإعلاميّة لأحد الأحزاب الكبيرة ؛ فأمرت رئيس تحرير الجريدة التي احتضنت السجال ، بأن ينشر شتائمهم المقذعة ضدّي ، ثمّ يسدّ باب السجال منعاً لردّي عليهم ! ورغم ذلك استطعت فضح عوراتهم بمقالتين فقط ؛ بحيث غدوا مدعاة للتندّر والسخريّة منذئذ حتى الآن !

* بصفتك قارئاً نهماً ببضع لغات ومطلعاً على سائر الآداب العالميّة ؛ أين ترى موقع الأدب الكردي؟
- هنا أستميحك إستعارة الإجابة من مقالة منشورة لي في (2007) إختزالاً للوقت والجهد ونشداناً للدقّة : ليس الأدب الكردي بجذوره الضاربة في القرن السابع قبل الميلاد ، والذي ترقى بواكيره الناضجة إلى مطلع القرن التاسع الميلادي ؛ ليس أقل عراقة وأصالة من أكثر وأقدم آداب الأمم الحية في العصر الحديث ، وللبرهان على ذلك ؛ لاندحة هنا من الإشارة إلى بدايات نشوء أوسع الآداب العالمية إنتشاراً في عصرنا الحديث (علماً أن التواريخ الآتية تقريبية ، وتختلف نوعمّا من مصدر إلى آخر): الأدب الصيني (القرن 14ق.م)/ الأدب اليوناني (القرن 10ق.م)/ الأدب الفارسي (القرن7 ق.م)/ الأدب الهندي (القرن 6 ق.م)/ الأدب العربي (القرن 5 م)،/ الأدب الأرمني (القرن 5 م)/ الأدب الإنكَليزي (القرن 8 م)/ الأدب الياباني (القرن 8 م)/ الأدب الفرنسي (القرن 9 م)/ الأدب التركي (القرن 9 م)/ الأدب الألماني (القرن 12م)/ الأدب الإيطالي (القرن 13م)/ الأدب الإسباني (القرن 13م)/ الأدب الدانماركي (القرن 15م)/ الأدب البرتغالي (القرن 13م) الأدب الروسي (القرن 16م)/ الأدب الأمريكي (القرن 18م)/ الأدب السويدي (القرن 18م)/ الأدب الشيلاني (القرن 18م)/ الأدب المكسيكي (القرن 19م)/ والأدب النرويجي (القرن 19م).......
  ورغم قدم الأدب الكردي وغناه بنصوص إبداعية كثيرة يضاهي بعضها عيون الآداب العالمية ، ظل لأسباب ذاتية وموضوعية ، أهمها : غياب اللغة الأدبية الموحدة ، إضافة إلى إنعدام دولة كردية موحدة لأجزاء كردستان من قبل ومن بعد ؛ ظل رهين التشرذم اللهجوي والتقوقع  في الغيتو وشبه مجهول حتى في أقرب اللغات والآداب إليها ! في حين أن اللغة الكردية رغم تدوينها بثلاث أبجديات (العربية ، اللاتينية والسيريلية) مثل االبنجابية بأبجدياتها الثلاث (للسيخ والهندوس والمسلمين) تعد أفضل حالاَ بكثير من اللغة الصينية مثلاَ ؛ حيث تعاني من مشكلات ، بل معضلات أضعاف مافي اللغة الكردية ، أبرزها " وجود تسعة وأربعين ألف حرف لاتنتج سوى أربعمائة وإثني عشر صوتا ممكناً " ! ومن الأسباب الأخرى لغيتو الأدب الكردي إنعدام حركة ترجمة منظمة عن الكردية إلى اللغات الأخرى حتى من قبل أبنائها أنفسهم ! لأن الجادّين المجاهدين بينهم قلائل وأكثرهم إمّا دعي مهذار أو أناني مافيوي أو حاسد مهمّش لغيره أو كسول ، بل أن بعضهم يجمع بين الصفات الذميمة كافة ! وجلّهم ينشد الأضواء والأمجاد الزائفة ، ناهيكم عن شبه إنعدام للمعاجم الضرورية والأنتولوجيات الأدبية والدراسات المعمقة والشاملة الشافية حتى التي تغطي تاريخ الأدب الكردي ، باللغة الكرديّة نفسها ! وعموماً أرى أن الأدب الكردي الحديث يتبوّأ المركز الرابع في الآداب الشرقأوسطيّة بعد الآداب : العربيّة ، الفارسيّة والتركيّة ، لكنه رهينة الغيتو والحصار اللغويين ؛ لضعف وهزال حركة الترجمة المنشودة إلى اللغات الأخرى بما فيها القريبة : العربيّة والفارسيّة والتركيّة..
* بصفتك أديباً موسوعيّ القراءة وشبه موسوعيّ في الكتابة والترجمة ؛ كيف ترى وضع البشر ومصيرهم ، لاسيّما من الأدباء والفنانين ، في زمن العولمة والموبايل وتحويل النت والفيسبوك للعالم إلى قرية ؟
- ثمّة إيجابيّات هائلة ، ربّما لم يكن يحلم بها حتى أغلب أبناء جيلي قبل ربع قرن ؛ ومنها : التواصل السريع جدّاً بين البشر ، بحيث يطلعون لحظة بلحظة على أخبار المعمورة قاطبة ، في حين كان ذلك يستغرق ذلك أيّاماً، شهوراً قبل قرن ، وربّما سنيناً قبل قرون ؛ وهذا التواصل يحسّس البشر ويشعّرهم بمصائرهم المشتركة - رغم آلاف الأميال الفاصلة بينهم – أمام كوارث الطبيعة وبلايا الحروب ورزاياها ، ناهيكم عن المستجدّات والمتغيّرات الثقافيّة حتى الرياضيّة...ومن ثمّ يعزّز توعيتهم بكونهم ليسوا جزراً معزولة متناثرة ، لا أثر لبعضها على بعضها الآخر...كما يوفّر مصادر ومراجع (الكترونيّة) غزيرة جدّاً ونوعيّة للأدباء والباحثين والمترجمين ، يتعذر الحصول على عشر معشار نظيراتها الورقيّة..وفضلاً عمّا سلف أرى في النت نعمة تكنولوجيّة هائلة بقهرها للدكتاتوريّات السياسيّة وللمافيات الثقافيّة الإستحواذيّة هنا وهناك فلولاها ؛ لظلّ أمثالي من الأدباء والفنانين المبدعين المستقلين الأباة رهائن مستضعفين للإقصاء والتغييب والتهميش والتعتيم من قبل مافيات الأقزام المتعملقين (وعاظ السّلاطين) حتى أبد الآبدين ! وهذا الحوار الفيسبوكي أقرب برهان على رأيي .
  أمّا العولمة على سائر الصّعد ، فهي في منظوري الجدليّ ، سلاح ذو حدّين ؛ مادامت أنظمة الغرب منافقة تبطن نواياها الحقيقيّة الرامية إلى تحقيق مصالحها الأنانيّة عبر فرض إمبرياليّتها الإقتصاديّة والثقافيّة على الشعوب المستضعفة واستغلال بلدانها بمثابة مناجم مجانية وشبه مجانية ، ناهبةً ثرواتها المعدنيّة بالأخص ، واستغلالها أيضاً كأسواق رائجة لبضائعها الكاسدة وغير الكاسدة ، لاسيّما لبيع أسلحتها إلى أنظمة الحكم والقوى المعارضة في آن واحد ! والأنكى من ذلك انها تتشدّق ليل نهار بدعمها للقوى الوطنيّة العلمانيّة وإرساء الديمقراطيّة والعدالة والمساواة وتتظاهر بترويج الإعلان العالمي لحقوق الإنسان ، بينما نجدها أقوى ظهيرة لقوى العماء الأصولي الرجعي ، ولنا في أدوار استحالة (الربيع العربي !) أسطع مثال وبرهان ؛ حيث نشهد دعمها الهائل (من خلف الكواليس) للقوى الأصوليّة المتأسلمة الرجعيّة الإرهابيّة ؛ لشراء ذمم وأصوات الناس الجياع (كما حدث ويحدث في مصر) ؛ لتستولي على كراسي الحكم ، وتعيد عجلة التاريخ إلى الوراء قرناً ، بل قروناً ؛ لكي تظلّ الشعوب المنكوبة المستضعفة بقرات حلوبة تدرّ الفوائد العظيمة لأوربا وأمريكا...حتى بنزيف أدمغتها المبدعة المضطرّة إلى الهجرة واللجوء للغرب بصفتها كوادر جاهزة للإستغلال...
  أمّا النت ، بما فيها الفيسبوك وغيرها ، فهي أيضاً سلاح ذو حدّين ، ولها سلبيّاتها الكثيرة كمثل إيجابيّاتها ؛ فباستخدامها المنحرف ؛ تساهم في نشر دعوات الإنفلات الجنسي بما فيه الشواذ ، الذي يسعى الغرب إلى شرعنته وقوننته تحت تسمية (المثليّة...) وجليّ أن الإنفلات المقصود سيطغى طارداً الحب الإنساني الحقيقي ؛ مادامت " العملة الرديئة تطرد العملة الجيّدة من السّوق " ومن ثمّ يهدم بنية العائلة المتماسكة التي هي لبنة مدماك صرح المجتمع السوي ...
وهنا لابدّ من تشخيص بعض آثار النت السّلبيّة على الإبداعات (الأدبيّة ، الفنيّة ، البحثيّة والعلميّة) ؛ فقد أدّت سهولة النشر إلى تكاثر (الذباب الطفيلي) بنسبة 90% مقابل (النحل المنتج) النادر أصلاً، بل أرى الكثير من النحل المبدع يلوذ بالنت (الفيس خاصّةً) طوعاً ، والقليل منه كرهاً ويهدر الكثير من وقته الثمين (بل من عمره) في ممارسة الحضور الفيسبوكي ، مختزلاً الإبداع إلى نشر المزيد من الصور وتبادل جمل وعبارات المجاملة (سواء أكانت صادقة أو نفاقيّة زائفة) ممّا يفضي ذلك إلى تضحيل الثقافة وتسطيحها ، وطغيان النفاق المتبادل ، ورواج الجدالات السفسطيّة والتفاهات...      
* حسناً..وأنت ايضاً تنشر على العديد من سايتات النت ولك صفحة فيسيّة وتكتب التعليقات والردود ؛ فما الفرق بينك وبين الآخرين والأخريات ؟!
- لكون فسحة النشر الورقي ضيّقة جدّاً في العراق لأكثر من سبب ، وتعذر انتشار المطبوع الورقي عموماً على مستوى العالم ؛ فإن أديباً مثلي غزير العطاء ومتنوّع الإهتمامات بأمسّ الحاجة لإيصال مساهماته إلى أكبر عدد من القرّاء والقارئات...لكنني نادراً ما أكتب تعليقات أو ردوداً تخلو من المجاملات النفاقيّة..وقد دخلت (كَازينو الفيسبوك) منذ فترة قصيرة ؛ من أجل التواصل الحميم مع بضعة مبدعين أعزاء وبضع مبدعات عزيزات ، لكنما على طريقتي الخاصّة (الجدّيّة) المغايرة للأغلبيّة ؛ بنشر القليل من الصور ، والكثير من المساهمات المجدية حتى لطليعة النخبة الثقافيّة هنا وهناك ، ناهيكم عن قلّة تعليقاتي وردودي...ويمكنني إيجاز ما أسلفت بأن (الفيسبوك) والقراءة النتية بمثابة محطة استراحتي بعد اشتغالي في الكتابة والترجمة والقراءة (12- 16) يوميّاً. 
* كيف تستشرف مستقبل النشر الورقي ؛ إثر اقتحام الكومبيوتر لمجالات الحياة كافة ؟
- مهما تسيّد النشر الإلكتروني ؛ سيظل النشر الورقي مطلوباً ، لأنه يتميّز بالتوثيق ، بل ان المنشور الورقي بمثابة ذاكرة خالدة منذ آلاف السنين ، ونسبة سرقته وانتحاله ضئيلة جدّاً بالمقارنة مع النشر الإلكتروني المعرض لشتى فنون اللصوصيّة ! وهكذا رغم الإيجابيّات الهائلة للنشر الإلكتروني (والتي أشرت إلى بعضها في إجابة أخرى) لن يكون بديلاً للنشر الورقي (التوثيقي) وثمّة تساؤل : يا ترى هل أن القرّاء والقارئات كافة (ومنهم القرويّون والأطفال والفتيان والصبايا) يجيدون / يُجِدْن استخدام الكومبيوترات والنت والفيس وغيرها ، ناهيك عن امتلاكها؟! إن أغلب أدبائنا وفنانينا وباقي إنتلجنسيانا لايجيدون إستخدام الكومبيوتر، بل يفتقرون حتى إلى إميلات !
وعليه ؛ لا أرى في النشر الإلكتروني بديلاً واقعيّاً للنشر الورقي ؛ لإنه (رغم انتشاره اللامحدود) معرّض في كلّ لحظة للإعدام بفايروس أو ضغطة زر ! لكنه أعظم ظهير للنشر الورقي بما يوفره من مصادر ومراجع بشتى اللغات قد لاتخطر على بال القاريء والمترجم والباحث ، كما انه يمكن أن يروّج المنشورات الورقيّة..ومن هذا المنطلق أحبّذ نشر أعمالي ورقيّاً ، ثمّ إلكترونيّاً، و قد دشّنت هذا النزوع منذ بضع سنين...وهذا يعني ضرورة التكافل بين النشرين .   
* هل تتمنى أن تتطرق إلى موضوع منعك ظرف ما من طرحه ؟
- لمْ يمنعني أيّ ظرف (مهما كان قاهراً وغير مؤاتٍ ، حتى في عزّ سلطة العفالقة) من التطرّق إلى أيّ موضوع ؛ جهراً أو ترميزاً أو توريةً...فمثلاً : نشرت دراسة طويلة في أحد أعداد مجلّة (الثقافة) لسنة 1979 تتناول الثقافة الكرديّة في الإتحاد السوفياتي ، وهاجمت فيها النازيّة والفاشيّة ومعاداة الشيوعيّة والنزعة العسكريتاريا (وكنت أعني بكل ذلك : العفلقيّة أعلى مراحل الفاشيّة) بل نشرت في (المجلّة) نفسها ، وفي السنة نفسها ملفاً عن الثقافة الإيرانيّة الثوريّة المناهضة للنظام الشاهنشاهي الإستبدادي ، وضمّنته قصّتي السّاخرة من شعارات البعث ورموزه (في السنة الحادية عشرة) على انها قصّة إيرانيّة مترجمة من قبلي (طبعاً نسّبتها لكاتب إيراني معارض باسم مستعار هو منوجهر كشاورزاده) !
 * كلمة تحب أن توجهها للقرّاء والقارئات ولموقع سطور.
- إمتناني الجزيل لموقع (سطور) ولروّادها الأفاضل ورائداتها العزيزات ، ولك من قبل ومن بعد؛ على هذا الإستذكار الباذخ ، متمنيّاً ألاّ ينهدر وقت أحد في قراءة هذا الحوار، وأن تجديه بضعة سطور ولو...    
* لك المودة والشكر من (سطور) 



حوار مع الخيّاملوجي جلال زنكَابادي

أجراه تحريريّاً :
محمد الحجيري *

  جلال حسين محمد (1951) : شاعر، مترجم وباحث عراقي باللغتين العربيّة والكرديّة ، ويترجم إليهما عن : الفارسية ، الإنكَليزية ، الإسبانية والآذرية... وهو عصاميّ النشأة ، تثقيف ذاتي موسوعي . عمل معلّماً في التعليم الإبتدائي (1971- 1991) ثمّ في الجرائد والمجلات محرراً ، مشرفاً ثقافياً ولغوياً ، في الأقسام والملفات الأدبية والفنية والثقافية ، وسكرتيراً ومديراً ورئيساً للتحرير لبضع مجلات في كردستان العراق .  راجع ونقّح المئات من النصوص الأدبية والبحثية والكتب المؤلفة والمترجمة لأدباء وباحثين كرد وعراقيين ومنهم أساتذة جامعيون . صدر له عشرون كتاباً ورقيّاً ونشر أكثر من عشرة كتب مؤلّفة ومترجمة على صفحات المجلاّت بمثابة (كتاب العدد) وعلى صفحات النت  و له قيد النشر أكثر من (10 كتب)
وبصفته خيّاملوجيّاً (معنيّاً بدراسة أعمال الخيّام) في مشهديّ الثقافتين الكرديّة والعربيّة ؛ فقد حاورناه بخصوص هذا المحور من محاور حراكه الثقافي ؛ ليلقي الضوء على الخيّام " ماليْ الدنيا..." :

* بمَ تعلّل اهتمامك الزائد بعمر الخيام ؟
- تعود علاقتي برباعيّات الخيّام إلى سنة 1963 فمنذئذ رحت أحفظ العديد منها بمتونها الفارسيّة وترجمتيها بالعربيّة (للصافي النجفي) والكرديّة (لشيخ سلام عازباني) بل طالما كنت أغنيها في شتى المناسبات بأسلوب المقامات العراقيّة والشرقيّة...ومع ذلك لم يخطر على بالي أن أترجم رباعيّات الخيّام إلى اللغتين الكرديّة والعربيّة ، أو أكتب عن الخيّام وآثاره ذات يوم ، إلاّ في سنة 2003 ؛ إثر تراكم هائل من المعلومات أيقنني بالفقر المدقع للغة الكرديّة في مضمار الخيّاملوجيا (الدراسات الخيّاميّة) والكم الهائل من الأغلاط والأوهام في معظم الترجمات والمقالات والدراسات العربيّة ؛ فكتبت دراسة مضغوطة بعنوان (الخيّام ينبوع لاينضب) نشرتها مجلّة (ينابيع) الأربيليّة في 2004 ، ثم مجلّة (الأقلام) البغداديّة لاحقاً (بصورة شوهاء جدّاً) ثمّ راحت  تراودني فكرة ترجمة رباعيّات الخيّام الأصيلة (حصراً) إلى كلتا اللغتين الكرديّة والعربيّة ، ومن ثمّ إنصبّ اهتمامي على الشأن الخيّامي وتوسّع وتركّز اشتغالي عليه ، وبالأخص في طور نقاهتي ( بعد عمليّة فتح قلبي في حزيران 2009) ؛ حيث وجدت مايعزّيني ويسلو قلبي في رباعيّات الخيّام الأصيلة بطروحاتها الأثيرة عن الحياة والموت ، والتي لولا  دقات أجراسها المنذرة بخطر رحيلي الأبدي ؛ لما انعكفت على إنقاذ تآليفي وترجماتي (التي يربو عددها على عدد سنيّ عمري) باستكمالها وإعدادها للنشر، وبالفعل أفلحت (رغم ظروفي اللامؤاتية) في نشر (12 كتاباً) خلال الفترة (2010- 2012)
  وبالطبع يتواشج هذا السبب (الذاتي) مع السبب الموضوعي ، ألا وهو كون الخيّام بضعة أعلام في إنسان واحد ، فهو: عالم في بضعة علوم ، وفيلسوف وأديب...ومحسوب على كلتا الثقافتين العربيّة والفارسيّة.. وعبر إطلاعي - ببضع لغات شرقيّة وغربيّة - على مئات الكتب والمقالات والدراسات المتعلّقة به وبأعماله العلميّة والفلسفيّة والأدبيّة ؛ إكتشفت العديد من الأغاليط والأضاليل والأوهام ، التي تستوجب التفنيد والتصويب ، لاسيّما فيما يتعلّق بعدد رباعيّاته الحقيقيّة ومستويات ترجماتها المتعددة (في اللغتين الكرديّة والعربيّة بالأخص)...حيث وجدت نفسي مؤهّلاً وقادراً على خوض غمار البحث والتحقيق والترجمة في مضمار الخيّاملوجيا شأني شأن أيّ خيّاملوجي إيراني (أي ليس أجنبيّاً) خصوصاً وان اللغة الفارسيّة هي بمثابة لغتي الأم الثالثة (من حيث الإتقان والإطلاع الثقافي) بعد اللغتين الكرديّة والعربيّة ، فضلاً عن تماسي مع بضع لغات أخرى تعينني كثيراً لتحقيق مبتغاي...وإثر إستقصاءاتي ، يبدو لي أن عدد كتبي المتعلّقة بالخيّام وأعماله سيبلغ نحو (15 كتاباً) باللغتين الكرديّة والعربيّة ، ومع كل ذلك لاأحسب اهتمامي بالزائد عن اللزوم ؛ إذ أستهدي بإنجازات أستاذنا العلاّمة يوسف بكّار، الذي أتحف المكتبة العربيّة بستة كتب في الخيّاملوجيا وبضع دراسات لانظيرات لها حتى عند الخيّاملوجيين الإيرانيين أنفسهم ، أي انها لاتدخل ضمن دائرة " بضاعتنا ردّت إلينا " بل يستحق بعضها الترجمة إلى الفارسيّة ، وبالأخص سفره الرائع (الترجمات العربيّة لرباعيّات الخيّام ، دراسة نقديّة)

* حسناً.. كيف تعلّل الإهتمام الزائد للمترجمين والباحثين بعمر الخيام ؟
- هذا السؤال تعميم لسابقه الذي تنطوي إجابته على التعليل إلى حدّ ما ، ومع ذلك أرى أن الإهتمام لم يخل من هستيريا الموظه ؛ بحيث راح كلّ من هبّ دبّ يدلو بدلوه في الشأن الخيّامي (كتابةً أو ترجمةً أو معاً) ؛ لعلّه يحظى بحفنة حمّص من (المولود) ! مادامت الأخبار والآراء قد اختلفت وتضاربت أيّما تضارب في شأن الخيّام : إسمه ، كنيته ، لقبه ، منبته العائلي ، قوميّته ، مسقط رأسه ، تاريخيّ ميلاده و وفاته ، أساتذته ، عدد مؤلفاته و نسبة الرباعيّات إليه وعددها.... بل " قد يندر في العالم قاطبةً وجود كتاب كـ (رباعيّات الخيّام) أُستُحسِنَ ، رُفِض ونُبِذَ ، حُرِّفَ ، وافتري عليه بهتاناً ، وأُدينَ ، وحُلِّجَ تحليجا ، ونال الشهرة العالميّة ، وظلَّ ، من ثمّ ، مجهولاً غامضاً !" على حدّ التشخيص الصّائب للأديب والباحث الإيراني الكبير صادق هدايت (1903- 1951)

* عجيب أمر الخيّام !
- أجل.. لأكثر من سبب ؛  تلغزت شخصيّة عمر الخيّام وما يتعلّق برباعيّاته بالأخص ؛ بحيث واجه الباحثون والمحققون الإيرانيّون والأجانب لغزاً شبيهاً باللغزين : (الهوميري) و(الشكسبيري)

* وهل مازال (اللغز الخيّامي) غير محلول لحدّ الآن ؟
- نعم..مازال حلّه غير محسوم ، لكنه ليس بمعضلة عصيّة على الحلّ ؛ إذا ما عمل الباحث المؤهّل بصبر وجلد و أناة ؛ لأن الحل يستوجب المزيد من الأبحاث الموضوعيّة الشاملة والمعمّقة ، مع تحاشي الإنجرار وراء المقاصد الذاتيّة كمثل سعي صادق هدايت ؛ لإيجاد صنوٍ (أبيكوري) له من القرن الخامس الهجري ! وكما فعل مخالفوه بفبركة خيّام (متأسلم) ، ومثلما راح أكثر الغربيّين يفبركون خيّاماً (كافراً وماجناً خليعاً) ؛ لتحقيق مآربهم !

* وماهي سبل الحلّ في رأيك؟
- لعلّ السبل الآتية تكفل للباحث تحقيق قسط  كبير من الحلّ المنشود :
(1) تشخيص معاصريّ الخيّام  و أقوالهم عنه وعن أعماله ، و بالأخص الذين إلتقاهم والتقوه.
(2) جمع كل ما قيل عنه وعن أعماله في المصادر القديمة في عصره والقريبة من عصره .
(3) استقراء جميع المؤلفات المنسوبة إليه ، لاسيّما أشعاره العربيّة والرباعيّات الفارسيّة وغيرها.
(4) تمشيط دواوين الشعراء الإيرانيين قبل الخيّام وبعده والمعاصرين له...
(5) دراسة المصادر القديمة والحديثة التي تتناول عصره : سقوط الدولة البويهيّة ، قيام الدولة السّلجوقيّة ، إندلاع الحروب الصّليبيّة ، وانبعاث الإسماعيليّة = النزارية .
(6) عدم الركون إلى/ والتسليم بالأحكام والآراء التقليديّة المتوارثة على عواهنها ؛ بإتباع الطريقة العلميّة في جمع وغربلة وتمحيص كلّ ماسلف مع الإستعانة بالدراسات الحديثة ؛ بغية تشييد عالم - الخيّام - الإفتراضي الأقرب إلى الواقع والحقيقة.
وطبعاً إن عالم الخيّام الإفتراضي المبتغى لايمكن أن يُشَيّد " إلاّ بشق الأنفس و بعناد بحثي مرهق " حسبما كتب العلاّمة كمال ابو ديب عن إحدى مخطوطات (ديوان التدبيج) للجلياني الأندلسي (1136- 1205م) وبالطبع لايمكن الجزم الدقيق بصواب كمال هذا العالم المفترض ؛ إذ ليس لسوى علاّم الغيوب أن يجزم بعلمه ، و لكن " مع أنّ معرفتنا بالماضي قلّما تصل إلى مرتبة اليقين ؛ فهذا لايقلّل من مسؤوليّتنا شيئاً " على حدّ قول جورج سارتون (1884- 1956)

* أليس هناك مبالغة في كثرة ترجمات الرباعيات والبحث عن سيرة صاحبها ؟
- بلى..ثمة مبالغة جليّة بالتأكيد ، وتنطوي إجابات الأسئلة السابقة على تعليلها .. ؛ فالعدد الهائل من الترجمات والكتابات مقابل النوع النادر جليّ في الخيّاملوجيا ؛ بل " يستحيل تقريباً إعداد كشّافٍ وافٍ بكلّ الترجمات والكتابات عن الخيّام ، في القرن الأخير" حسب الخيّاملوجي الفرنسي بيير باسكال ؛ فقد صدر ونشر عن الخيّام ورباعيّاته وآثاره العلميّة والفكريّة أكثر من (3 آلاف كتاب ومبحث) حتى عام 1960، وبالتأكيد تضاعف هذا العدد ؛ وخصوصاً إثر ظهور النت ؛ بل لم يحظ أديب عالمي آخر بما حظي به الخيّام غير القلائل أمثال : شكسبير ، كافكا ولوركا... والحال (طبعاً) أشبه مايكون بالنشر المنفلت على النت ؛ ففي أكثر من (100 لغة ولهجة) قلّما نجد ترجمات جيّدة (دقيقة في نقل المعني والأسلوب) والحكم نفسه ينسحب على آلاف الكتب والمقالات والدراسات التي تتناول سيرة الخيّام ومؤلفاته ، لاسيّما رباعيّاته ، حتى أكثر الكتب باللغة الفارسيّة نفسها ! وعليه ؛ أتساءل : هل من قوّة أو سلطة يمكن أن تردع الدخلاء والمتطفلين على ترجمة رباعيّات الخيّام والكتابة (باجترار مقرف) عنه وعن أعماله ؟!

* طبعاً لاتوجد هكذا سلطة رادعة ، ومع ذلك يساورني السؤال الآتي : ألم يكن للإستشراق الدور البارز في صناعة الخيّام ؟
- ليس للإستشراق (والمروّجين الشرقيين لطروحاته) سوى دور ضئيل وغير جوهري ، في (صناعة !) الخيّام ، ويكاد أن يقتصر على ترويج (الرباعيّات الدخيلة والمدسوسة المستنكرة : الخمريّة ، الكفريّة والخليعة) ولم تكن غاية الإستشراق إعادة تصدير تلك الرباعيّات إلى الشرق ، وإنما لحاجة النهضة العلمانيّة الأوربية لطروحاتها ، بالتزامن مع ظهور التيّارات الفكريّة والفلسفيّة والعلميّة والسياسيّة الناهضة : (الماركسيّة ، الوجوديّة والفرويديّة) في النصف الثاني من القرن التاسع عشر ولاحقاً...وفي رأيي مفردة ان (صناعة) مرفوضة  بحق الخيّام ؛ فليس الخيّام بـ (علم مصطنع) وإنما هو علاّمة موسوعي كبير من أعلام العلوم والفلسفة العربيّة - الإسلاميّة ، بل على المستوى العالمي ، حتى لو جُرّد من أشعاره الفارسيّة .
 إن حشر (الإستشراق) في الشأن الخيّامي يدخل ضمن (نظريّة المؤامرة) بالتأكيد ، ولم يكترث به حتى كبار الخيّاملوجيين الإيرانيين المناهضين للرباعيّات المستنكرة المدسوسة ، وتبعاً لـ (نظريّة المؤامرة) نشر أحد الإخوة واسمه (شامل عبدالعزيز) مقالاً عنوانه (رباعيّات عمر الخيّام كتبها اليهود) في موقع (الحوار المتمدّن ، ع 2710 في 17/7/2009) !
  وهنا لابدّ أيضاً من تشخيص الخطأ الجسيم الذي وقع فيه أغلب الخيّاملوجيين (الباحثين والمترجمين) ألا هو اختزال عمر الخيّام إلى (شاعر) أو (عالم) أو(فيلسوف) فقط ؛ بينما الصواب هو كلّ هؤلاء ، بل أكثر، لكونه مثقفاً موسوعيّاً فريداً في عصره . وهذا يعني أنه يجب ألاّ نجتزيء شخصيته المتكاملة بالفصل بين رسائله العلميّة والفلسفيّة و شعره الأصيل . كما يجب ألاّ ننفي منحنيات نموّ وتطوّر شخصيّته وتغيّرها خلال مسيرته الحياتية – الفكريّة كما لو انه صخرة جامدة من الأزل حتى الأبد !

* إستوقفني قولك : " حتى لو جُرّد من أشعاره الفارسيّة " فماذا تعني ...؟
- ثمة باحثون قائلون بعدم انتساب الرباعيّات إلى العالم والفيلسوف عمر الخيّام ، ومنهم المستشرق الألماني هانس شيدر(1896-1957) فقد صرّح (بكلّ يقين) في مؤتمر الإستشراق في بون (سنة 1934) : " إنّ الحكيم والعالم الرياضي عمر الخيّام لمْ ينظمْ أيّ شعر يُذكَر، وإن هذه الرباعيّات المنسوبة إليه ، هي صورة من الشعر الباطني ، الذي راج في عهد سيطرة المغول ، وشاع فيه الفساد في عهد حكم السّلاجقة ؛ ولذا آن الأوان لحذف اسمه من تاريخ الأدب الإيراني" !
ثمّ تلاه الباحث والشاعر صديقي نخجواني (1910-؟!) في كتابه (الخيّام المتصَوّر وجواب أفكاره القلندريّة) المنشور عام 1941 في تبريز، إذ سعى إلى الفصل مابين الخيّام صاحب الرباعيّات والخيّام الحكيم والفيلسوف: " كان الحكيم النيسابوري حسب تصريحه في أحد مؤلّفاته ذا ميل إلى مسلك التصوّف ويعد تهذيب الأخلاق وتصفية الباطن كأفضل وسيلة لإدراك الحقائق...وهذا يطهّر الحكيم النيسابوري من تلويث ساحته بالرباعيّات المستنكرة المعروفة بإسمه ...ولذا نعتقد أن قائل هذه الرباعيّات شخص أو أشخاص من الخلعاء القلندريّة النكرات المغمورين الذين كانوا يحصلون يوميّاً بالشحذ أو النصب على دريهمات ، ويقصدون الحانات ليسكروا وينظموا الرباعيات بلا وعي..."  ومن ثمّ جاء محمّد محيط طباطبائي (1902- 1991) ليقتفي أثرشيدر ونخجواني بعزيمة أقوى وعدّة أكثر، إبتداءاً بمقالته ( من عمر الخيّامي الحكيم حتى عمر الخيّام الشاعر) في (1973م) وراح يعمّق طروحاته لاحقاً بـ (15 مقالة وعدة مقابلات وحوارات) ومنها : (الحكيم عمر الخيّامي ، لا الخيّام) ، (الخيّام الأصلي والمزيّف) و(خيّام واحد أم بضعة خيّامين؟)... والتي إنتظمت لاحقاً بين دفتي كتابه (الخيّامي أو الخيّام) الصادر في 1991

* يبدو لي انه لابدّ من وجود أساس لشكّ طباطبائي في كون العالم والفيلسوف عمر الخيّام شاعراً ؛ فما هو؟
- يستند طباطبائي إلى عدم تصريح عمر الخيّام بكونه شاعراً في أيّ محفل خلال حياته ، وفي أيّ مؤلّف له ، بل عدم وجود أيّة إشارة إليه بوصفه شاعراً لدى مجايليه وتلاميذه ، فضلاً عن اختلاف وتضارب الأخبار المتعلّقة بشأنه إنساناً ، عالماً ، فيلسوفاً وشاعراً ، بالإضافة إلى توارد ذكر شعراء آخرين باللقب نفسه (الخيّام ، الخيّامي) :
أبو صالح الخيّام البخاري (؟!- 971 م) ،
عبدالله محمد الخيّام المازندراني (؟!- 992 م) ،
خلف بن محمد بن اسماعيل الخيّام (عاش و توفي في القرن11م) ،
مصاحب الدين أو مذهب الدين محمد بن علي الخيّامي (من العراق) (؟! – 1244 م)
وعلاءالدين علي بن محمد بن احمد بن خلف الخراساني المعروف بـ (الخيّام ) والذي يحسبه طباطبائي الصاحب الحقيقي للرباعيّات التي نسبت إلى عمر الخيّام العالم والفيلسوف ! وعلاءالدين الخراساني هذا (عاش في القرن السابع الهجري = 13 م) ولم يرد ذكره سوى عند كمال الدين عبدالرزاق المعروف بـ (ابن الفوطي) (1244- 1323م) في تلخيص (مجمع الآداب في معجم الأسماء على معجم الألقاب) الذي حققه د. مصطفى جواد ونشره في 1963 بدمشق ، حيث جاء على (ص 1055/ ج 4 / القسم الثاني مايلي :
 " علاءالدين علي بن محمد بن احمد بن خلف الخراساني المعروف بالخيّام ابن خلف المذكور ، له ديوان بالفارسية ، وشعره كثير مشهور بخراسان و أذربايجان ، ومما نقلت من خطه :
أمِـســـكٌ أمْ عــــذارٌ قـــدْ تبــدّى
حوالي بــدرِ غرّتـك المفــــدّى؟
أم اجتـُـلي الجمـالُ عليـك غفلاً
فحكت له طرازاً مستـــــجـدّا ؟ "
والجدير ذكره هنا هو ان العلاّمة مصطفى جواد لم ينف كون عمر الخيّام شاعراً، حيث كتب في تحشيته : " في هذا دلالة على أن في شعراء العجم خيّامين ، وإن المشهور منهما بالشعر هو هذا ، لا عمر بن ابراهيم الحكيم المتكلّم الرياضيّ المنسوبة إليه الرباعيّات ، فإنْ كان الحكيم شاعراً ؛ فقدْ إختلطت أشعارهما "
لكن طباطبائي ظل يعزف على وتر (أقل من 40 كلمة وردت عند ابن الفوطي) ؛ متوهمّاً فلاحه في تجريد عمر الخيّام العالم والفيلسوف من شعره ، الذي ورد منسوباً إليه في العشرات من المصادر المرموقة قبل ابن الفوطي وبعده .

* وهل هناك آخرون سعوا إلى تجريد عمر الخيّام العالم والفيلسوف من رباعيّاته؟
- نعم .. ومنهم الدكتور سيد محمد رضا جلالي نائيني (1915- 2010) الذي قال بهذا الصدد :
" لاأحد من معاصريّ الخيّام عرفه شاعراً " و " الرباعيات المنسوبة إلى الخيّام لاعلاقة لها به ؛ فهي أصلاً من نظم شاعر وأديب خراساني عاش في القرن السادس أو أوائل القرن السابع الهجري ، و كان متأثراً بالفلسفة المادية "
وعلى هذا المنوال أيضاً يؤكّد العلاّمة محمد تقي جعفري في مقدمة كتابه (تحليل شخصيّة الخيام) الصادر عام 1986 قائلاً : " أبو الفتح عمر بن ابراهيم الخيّام ليس هو الخيّام صاحب أو أصحاب الرباعيّات الشهيرة ، فهما شخصان مختلفان ؛ فهو الفيلسوف والرياضي والفلكي ، الذي لقبه الناس بالإمام وحجّة الحق ، ولايمكن أن يكون قائل رباعيّات تدعو الناس إلى الفرصة للتمتع وكرع الخمرة واللاأباليّة "
 وللباحث الفرنسي ف . دوبلفاي منظوره المشابه للسالفين ؛ فهو يحسب عمر الخيّام الشاعر بالشخصيّة القصصية الخياليّة ، ولاتسنح هذه الفسحة لطرحه الذي يشدّد على تناسي ذاكرات الناس لعمر الخيام التاريخي وحلول قرينه القصصي محلّه !
والطريف أن طباطبائي زعيم المتشدّدين الساعين إلى تجريد عمر الخيّام من شاعريّته قد كشف لاحقاً عن سرّ إصراره على مسعاه الواهي للتقليل من قيمة عمر الخيّام الحكيم والفيلسوف ، بل وتجريده من شاعريّته !

* كيف ؟!
- لقد صرّح طباطبائي في حوار أجراه معه مسعود خيّام ، ونشره في كتابه (الخيّام والرباعيّات) المنشور في سنة 1996 : " كان مينوي متكبّراً ومغروراً ؛ فوجب سحقه ، وقد سحقته ، وسفّهت نتاج عمله ...ولم يكن الخيّام يعنيني بشيء ، فسعدي ومولوي هما شاعراي المفضلان ، لكنني أضطررت إلى أن أضرب أيضاً الخيّام ؛ لكي أحطم فم مينوي ، والله شاهد على انني لم أبتغ التطويح بالخيّام ، وإنما مينوي " ! والمقصود هنا هو العلاّمة مجتبى مينوي (1903- 1976) محقق كتاب (نوروزنامه) عمر الخيّام ؛ وهنا يتجلّى لؤم ودناءة هذا الطباطبائي المنعوت بـ (العلاّمة !)
ولابد هنا أن أتساءل مع صادق هدايت بما فحواه :- حسناً ، لو ننفي تنسيب هذه الرباعيّات (وأقصد الأصيلة منها ، والتي بلغت لحدّ الآن أكثر من 70 رباعيّة ) إلى عمر الخيّام ؛ فإلى من ترى ننسبها ؟! فـ " لابدّ من وجود خيّام آخر معاصر له ، وربّما أعلى منه مقاماً علميّاً ؛ فمن هو؟ ولماذا لايعرفه أحد ؟!" ولايسعني إلاّ أن أتمّم تساؤله : - يا ترى هل كان علاءالدين الخراساني في مستوى ثقافة عمر الخيّام علميّاً وأدبيّاً وفلسفيّاً ؛ ليكون الصاحب الحقيقيّ لهذه الرباعيّات الزاخرة بالفلسفة والحكمة؟!
ثمّ لو لم يكن عمر الخيّام العالم والفيلسوف شاعراً، بل شاعراً كبيراً من طراز خاص وخلّف على الأقل نحو (150 رباعيّة) ؛ فهل كان سيؤثر كلّ هذا التأثير الملحوظ في العديد من شعراء عصره الكبار وغيرهم من اللاحقين ، وهل كان بعضهم سيذكره بالإسم ، ناهيك عن ذكره شاعراً مع نماذج من رباعيّاته وقطعاته الشعريّة في العديد من المصادر القديمة المعتبرة؟!
  لعلّ أطرف ما يستوقف المتمعّن المتمحصّ في موقف الذين يجرّدون عمر الخيّام العالم والفيلسوف من شاعريّته ، وينسبون رباعيّاته إلى غيره بجرّة قلم ، هو انهم غيرمنتبهين إلى المطب الكبير المتعلق بالرباعيات نفسها من مشكلات التناقض الفكري بينها ، و اندساس الدخيل فيها ، والتنازع عليها بتنسيب أكثرها إلى شعراء آخرين ! فضلاً عن سكوتهم إزاء قطعه الشعريّة العربيّة التسعة (31 بيتاً) التي لاخلاف يًذكر على ملكيّة ثمان منها له ، بل لمْ يجرؤ أحد من الباحثين : طباطبائي و نائيني و شيدر على جمع وتحقيق ونشر تلك الرباعيّات بعنوان (رباعيّات علاءالدين الخيّام الخراساني) ! وكذلك جهلوا أو تجاهلوا وجود الشعراء الأربعة الآخرين بلقب (الخيّام) نفسه والذين أوردت أسماءهم ؛ طبعاً لئلاّ يزدد الطين بِلّةً ؛ فينزلقوا في حيص بيص لاينتهي...

* يبدو لي أن لديك المزيد ممّا يتعلّق بالخيّام غير مطروح في اللغة العربيّة ؛ فهل تناولت هذه المعضلة (مثلاً) بالبحث والتحقيق ؟
- أجل ..فقد خصّصت عشرات الصفحات في كتابي الجديد الجاهز للنشر ؛ لتناولها بشموليّة وعمق ؛ وأعتقد بأني قد أفلحت في تفنيد كل الحجج الواهية وغير الواهية لكل السّاعين إلى تجريد العالم والفيلسوف عمر الخيّام من شعره ، بل آمل أن يساهم كتابي الجديد وهو بعنوان (الخيّام ماليء الدّنيا وشاغل المترجمين) كمثل كتابي السابق (ديوان عمر الخيّام) وكتابي الماثل للطبع (موسوعة الخيّام) في حلّ (اللغز الخيّامي) وتصحيح الصورة الشوهاء الشائعة لعمر الخيّام ، و هي صورة (خيّام موهوم) مرسومة بالإستناد إلى رباعيّات دخيلة و مدسوسة و مستنكرة (خمريّة ، كفريّة و خليعة) و مع ذلك استند إليها أغلب الباحثين في استقراء و استنتاج الفلسفة الخيّاميّة ، بل ثمّة مَنْ دبّج فتاوى تكفيريّة بحق الخيّام !

* وهل تعتقد بحسم المشكلات والمعضلات المتعلّقة بالخيّام في كتابك المذكور وكتبك المقبلة ؟
- برغم كون كتابي المذكور (بانوراما مضغوطة) أتغيّا به حسم العديد من المشكلات والمعضلات ؛ لكنّه لن يكون خاتمة المطاف و الكمال في عالم الخيّاملوجيّا ؛ فبوّابة الإحتمالات تظل مفتوحة على الترجمات والتفاسير و التآويل ، بل على ظهور نتاجات خيّاميّة مازالت مفقودة ؛ فثمة رسائل علميّة له لمْ يُعثر عليها لحد الآن : (مختصر في الطبيعيّات) ، (لوازم الأمكنة) ، (مشكلات الحساب) و رسالة لمْ يُعثر إلاّ على قسم منها (شرح المشكل من كتاب الموسيقى ) و قد تحصل حتى مفاجأة مثل إكتشاف الباحث الإيراني محمد افشين وفايي والباحثة أرحام مرادي لـ (17 رباعيّة) جديدة لعمر الخيّام (لم يسبق العثور عليها في أيّ مخطوط أو كتاب سابقاً) ضمن كشكول قديم يعود تاريخ تدوينه إلى نهايات القرن السابع الهجري أو إلى مطلع القرن الثامن الهجري (13 و14م) وهو إكتشاف مهم جدّاً ربّما سيعين الخيّاملوجيين والمترجمين كثيراً ، و ربّما سيدفعهم إلى إعادة النظر في بعض أو العديد من المسلّمات السائدة المتداولة والمتعارف عليها ، وبالأخص مايتعلّق بعدد الرباعيّات الأصيلة لعمر الخيّام وفلسفته المستقراة والمستنتجة من تحليل رباعيّاته.
 أمّا ظهور مخطوط للرباعيّات بخطّ الخيّام نفسه ، أو مجايل له أو معاصر له ؛ فقد بات في حكم الإحتمالات المستحيلة ، فمثل ذاك المخطوط  حتى لو كان موجوداً عصرذاك ، قد راح لاحقاً أدراج رياح الغزوات والإحتلالات التركيّة والمغوليّة والتتريّة ، وما وصلنا من شعر الخيّام ، بل من شعر العشرات من الشعراء الإيرانيين الآخرين حتى المعروفين ؛ ما هو غير شذرات في مظان متبعثرة قام بلملمتها النسّاخ والمحققون والباحثون ، ولكل واحد منهم طريقته وغايته...

* لقد وردت في أجوبتك السّابقة عبارتا (الرباعيّات الحقيقيّة ، الأصيلة) و(الرباعيّات الدخيلة ، المدسوسة) غير مرّة ؛ فما هي المعايير الأدبية التي يمكن أن تعين الباحث على فرزها عن بعضها البعض ؟
- بالضرورة ستطول إجابتي عن هذا السّؤال المهم جدّاً ؛ لأنه يتعلّق بأحد أهم محاور كتبي ؛ فمنذ اكتشاف عمر الخيّام (؟1021-؟1123م)  شاعراً من قبل الغرب بعد وفاته بنحو (700 سنة) أي قبل قرابة القرنين - مابرح الخيّام ماليء الدنيا وشاغل المترجمين والباحثين والفنّانين...فقد تناولته آلاف الكتب والدراسات والمقالات بعشرات اللغات الغربيّة والشرقيّة، لكنّما الكتب التي تناولت معضلة اختلاط رباعيّاته الأصيلة بالدخيلة وفرزها ؛ لتحقيق وضبط ديوانه قليلة جدّاً، وقد دار كتابي (ديوان عمر الخيّام) في هذا الفلك ، الذي لم يلتفت إليه أغلب المترجمين والباحثين في اللغة العربيّة منذ أكثر من قرن .
 لقد تضاربت الأقوال في تحديد عدد رباعيّات الخيّام تضارباً كبيراً، يل حتى في ضبط  صيغ أكثر الرباعيّات الأصيلة ونسبتها إليه ، كما يتجلّى في تحشية ترجمتي لها في (ديوان عمر الخيّام) ؛ استناداً إلى ما توصّل إليه بضعة محققين متبحّرين إيرانيين بالأخص ؛ فـ " أهل مكّة أدرى بشعابها " ومن أبرزهم : صادق هدايت (1903- 1951) ، محمد علي فروغي (1878 - 1943)، قاسم غني (1898- 1952)، علي دشتي (1896- 1982) ، جلال الدين همائي (1899- 1980) ، محسن فرزانه و رحيم رضا زاده ملك (1940- 2010)  وآخرون ...والذين توصّلوا إلى كون ديوان الخيّام الأصيل/ الحقيقي على حدّ القطع واليقين لايتعدّى الـ (74 رباعية وبضع مقطوعات شعرية بالعربية والفارسية) ويمكن في أقصى الأحوال إضافة نحو ضعفيّ عدد الرباعيّات الأصيلة على سبيل الإحتمال ، لا اليقين ، في حين نسّبت إلى الخيّام أكثر من ألف رباعيّة منحولة ، حتى بلغ عددها قرابة (1300 رباعية !) بل صرّح الباحث والمحقق الإيراني الدكتور محمد جعفر ياحقي أخيراً أنّ عدد الرباعيّات المنسوبة إلى عمر الخيّام يبلغ أكثر من عشرة آلاف رباعيّة ! وأضاف : " ولكنّنا لانستطيع أن ننسب إليه جزماَ حتى عشرها " بل " ليس ثمّة مَنْ يجرؤ على القسَم بمقدّساته أنّ هذه الرباعيّة أو تلك هي لعمر الخيّام يقيناً !" ويؤكّد المستشرق آرثر آربري (1905- 1969) هذا الرأي بتعبير آخر؛ ألا وهو تعذر اليقين القاطع بتنسيب أيّ رباعيّة إلى الخيّام ، رغم انّه يعتقد أنّ الخيّام قد خلّف مالايقلّ عن (750رباعيّة) بل قال المستشرق نيكلسون (1868- 1945) ما فحواه : لو عاد الخيّام نفسه إلى الحياة ؛ لاحتار وعجز عن فرز رباعيّاته الأصيلة عن الركام الهائل للرباعيّات الدخيلة !
 إذنْ هناك المزيد من الرباعيّات المنحولة (الدخيلة والمدسوسة) وهي أكثر من ألف رباعيّة منسوبة إلى عمر الخيّام بحسن النيّة وسوء الطويّة كليهما ، حيث نظم الكثير من الشعراء والمتشاعرين والشعارير، من شتى المشارب ولشتّى الدواعي " وكانوا ربّما من أهل الفلسفة ، أو من اللاأدريين ، أو الشكّاك ، أو الملحدين ، وبعضهم ربّما كانوا من المُجّان وأرادوا التغنّي بالخمر والهوى ، أو قد يكونون من المتصوّفة الذين أعجبتهم الرباعيّات الخمريّة ، وأوّلوها تأويلات تعجبهم ؛ فنسجوا على منوالها ، أو ربّما كانوا من الزّهّاد ؛ فألّفوا على طريقة الخيّام رباعيّات تزدري الدّنيا وتحطّ من شأنها . وكلّ ذلك قد إختلط برباعيّات الخيّام نفسه ؛ حتى لاندري ما له وما ليس له ، وأُدرجت ضمن رباعيّاته كلّ رباعيّة شاردة لم يُعرَف لها صاحب ، أو كان صاحبها مغموراً واعتبرت مجهولة النسب ؛ فأُلحِقت بالخيّام ، وتلك جريمة النسّاخ الذين لمْ يفوّتوا شيئاً ممّا يمكن أن يُنسب إليه ، وحرّفوا بعضها..." على حدّ تشخيص الباحث عبدالمنعم الحفني . وبالطبع أنّ أكثر الرباعيّات المنحولة مبتذل وتافه ، وبالأخص أغلب الرباعيّات (الكفريّة) و(الإباحيّة) ، ناهيكم عن تدوينها وإسنادها من قبل جامعين ونسّاخ أغلبهم جاهل لايفقه شيئاً من فن الشعر، أو سيّيء الطويّة ؛ حتى بات الفرز بين الأصيل والدخيل شبه مستحيل. وتأكيداً لما سلف ؛ أعتقد أنّ ظاهرة التأليف والإسناد إلى الخيّام قد تفاقمت كردّ فعل مباشر حيناً وغيرمباشر حيناً آخر، في عهد الشاهات الصفويين ، الذين فرضوا التشيّع رسميّاً على جميع الإيرانيين ، ولمْ يتوانوا عن القتل الطائفيّ ، بمؤازرة فقهاء الشيعة (الوافدين من جبل عامل بلبنان والبحرين... وذراريهم) والذين صعد نجمهم وأضحوا في مصاف الإكليروس الأرستقراطي الإيراني المتنفذ في السّلطتين الدينيّة والدنيويّة ، وبالضرورة رافق تنامي سطوة الفقهاء والمتفيقهين المركّزين على العلوم النقليّة والمرجّحين لها على العلوم العقليّة ، رافقه نبذ ، بل وقمع عنيف أحياناً للأدباء والفلاسفة والصوفيين ؛ ممّا أدى إلى هجرة مئات الأدمغة الإيرانيّة الكبيرة إلى الهند وغيرها. ومن المفارقات التاريخيّة أن الثقافة باللغة الفارسيّة والفنون الإيرانيّة قد ازدهرت في العهد التيموري بالهند ، بينما تقهقرت وتحجّرت وانحطّت في إيران على مدى بضعة قرون ، حتى نهضتها منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر. ولقد وصف أحد شهود ذلك العصر وهو عبدالواحد الكَيلاني أولئك الفقهاء والمتفيقهين المتملّقين للحكّام بـ " أنّ أكثرهم لصوص وكذابون لايهدفون إلاّ إلى الشهرة والمنفعة المادّيّة " ومن المعروف " أنّ جدالاتهم وغوصهم في سفاسف الأمور الفقهيّة ؛ إنّما كان تغطية على عدم اكتراثهم برسالة الإسلام الأساسيّة " على حدّ قول كولن تيرنر. وهذا ممّا يعلّل أيضاً تناسل وتكاثر الرباعيّات المنحولة (الكفريّة والخمريّة والإباحيّة المبتذلة بالأخص)عهدذاك ، والمنسوبة افتراءً وظلماً إلى الخيّام "
  ثمّ يجب ألاّ يغيب عن البال أنّ جميع مخطوطات رباعيّات الخيّام الأصليّة وأغلب المصادر المخطوطة من تذكرات وسفائن وكشاكيل شعريّة (قد أصبحت في خبر كان) عند تعرّض إيران ، وخاصّة نيسابور للغزو والإحراق على أيدي المغول والتتر...وتناقلت الألسنة رباعيّات الخيّام حتى دخلها التحوير والتبديل..وتعاقب عليها النُّسّاخ ؛ فغيّروا الكثير من معالمها..ودسّوا فيها من شعر غيره ، وأثبتوا له من القول ما بريء منه لسانه ، كما أشار الشاعر والمترجم احمد رامي . وهكذا ضاع الكثير من رباعيات الخيّام ، ولم تسلم البقيّة من سوء نوايا النسّاخ وعبثهم وجشعهم ، كما أسلفنا ؛ فقد أضاف بعضهم إليها الكثيرعلى هواهم، وحذفوا مالايروق لمزاجهم وعقائدهم ، ناهيكم عن تكثيرعدد الصفحات ؛ ليدرّ عليهم المزيد من النقود والخلع من لدن الملوك والأمراء والسلاطين...أمّا الشعراء والمتشاعرون والشعارير الجبناء ؛ فكان أغلبهم لايتوانى في تنسيب رباعياته الكفريّة والإباحيّة التي يخشى من عواقبها إلى الخيّام ، شأنهم في ذلك شأن بعض اللؤماء والخبثاء الذين راحوا يلفقون على لسان الخيّام ما يشوّه صورته الفكرية الحقيقية ، وبهذا الخصوص يستوقفنا صادق هدايت بتعليقه الذّكي : " لو عاش إمرؤٌ قرناً ، وما انفكَّ يغيّر آراءه ومعتقدانه مرّتين يومياً ؛ لما استطاع أن يعبّر عن كلّ هذه الآراء المتباينة " وعليه لاعجب إن صرّح الباحث الإيراني محمد علي اسلامي ندوشن : " أعتقد جازماً أن رباعيات الخيّام الأصيلة لايتجاوز عددها ست عشرة رباعية "!
ولذلك ؛ فإن إدراك الخلفيّة التاريخيّة (السياسيّة والأدبيّة والدينيّة – الطائفيّة) عصر الخيّام وما يليه ، والإستناد إلى المصادر والمراجع في عصره والقريبة منه ودراسة مؤلفاته الفلسفيّة والعلميّة وشعره العربي ، ثمّ جرد دواوين الشعراء المعاصرين له والعصور اللاحقة ؛ سيعيننا على وضع معيار أساسي لتشخيص وتحديد عدد الرباعيّات الأصيلة لعمر الخيّام وطبيعة خطابه الشعري الذي تجلّى للخيّاملوجيين المتبحّرين بكونه في غاية الصراحة والفصاحة ،إلاّ ماندر، بل إن تمحيص رباعيّات الخيّام الأصيلة ومقطوعاته الشعريّة العربيّة والفارسيّة يُجَـلّـي ويثبت أن الخيّام ليس أبا نؤاس ولا عمر بن أبي ربيعة ، بل ولا حتى المعرّي . أجلْ ، ليس الخيّام بشاعر غزل ونشيب ولا غرام  ولا إباحة ، ولامجون ولاعربدة ولاداعية لللامبالاة وإدمان الخمر والمخدّرات ، وحتى تشاؤمه ليس بمطلق . ولقد ثبت لحد الآن بطلان نسبة مئات الرباعيّات الخمريّة والكفريّة والإباحيّة إليه.
  لقد رغب الخيّام في رباعيّاته عن أغراض الشعر التقليديّة : المديح ، الهجاء ، الغزل ، الرثاء...وعن القضايا الآنيّة وصغائر الأمور، التي كانت شاغلة لأكثرالشعراء ، كما انّه لمْ ينظم القصائد الطوال ، وإنّما انشغل بتصعيد معاناة الإنسان الوجوديّة في حيرته المؤبّدة ، وطرح أسئلته وتساؤلاته الكونيّة الجوهريّة والمصيريّة ، في قالب الرباعي ، وهي الأسئلة التي طرحتها آداب البشريّة وفنونها منذ ملحمة كَلكَامش الخالدة ، ببساطة لاتصنّع فيها ولاتزويق ولامحسّنات بديعيّة ، وفي غاية الإيجاز والإحكام والبلاغة... بل لمْ يحاكِ الخيّام أيّ شاعر من قبله (رغم تأثره مضمونيّاً ببعضهم) فقد استخدم لغة بسيطة وسلسة ومركّزة ؛ للتعبير عن أحاسيسه وأفكاره . ولقد حاكاه لاحقاً شعراء كثيرون ، لكنّهم لمْ يفلحوا في تحقيق ماحققه الخيّام من بساطة آسرة في تبيان الأحاسيس والأفكار الإنسانيّة الجوهريّة ، فضلاً عن قدرته الفذّة ، التي قلّما تجارى ، في اختيار الألفاظ المناسبة جرساً ، للتعبير عن أحاسيسه وأفكاره بانسيابيّة لاتكلّف فيها ، ناهيكم عن بساطة تشبيهاته واستعاراته. ومن هنا ندرك علّة خلود هذه الرباعيّات ؛ فهي تكمن في انّ الخيّام لمْ يتغيَّ التشاعر بنظمها ، وإنّما كان يتغيّا توصيل محتواها الفكري العميق والرحيب والجريء ، بخطاب فصيح وبليغ جدّاً ، يتحاشى استخدام اللغة المعقدة ، العسيرة الفهم ، والتي يسودها التصنّع والتكلّف والتبهرج . ومن السمات الأخرى لشعريّة رباعيّاته طغيان الحسّ المرهف والذوق اللطيف في استحضار وتجسيد مشاهد الطبيعة الخلاّبة بشتّى عناصرها : الشمس ، القمر، الغيم ، المطر ، الجدول ، الماء ، الريح ، النسيم ، التراب ، الغبار ، النّار، السّماء ، النجم ، الليل ، السَّحَر ، النهار، الخضراء ، الطير ، الورود وشذاها ، والألوان...وكذلك الطبيعة المصنّعة وغيرها : القصر، القبر، الطلل ، الخان ، اللبنات ، البستان ، الحان ، الدّن ، الكوز ، الإبريق ، الكأس ، الشراب ، الجنك وأنغامه...إذ أفلح الخيّام بمعجمه الشعري الصغير ودونما حذلقة واستطرادات مملّة ، في رسم مشاهد خلاّبة وآسرة زاخرة بحبّ الحياة ، مع التذكير بقصرها وبالموت المترصّد والمحتّم في أيّ لحظة ؛ من أجل إدراك آلاء الحياة والتمتّع بكلّ لحظة فيها ؛ وهنا تتجلّى أيضاً سمة المتانة والرصانة والجدّ ، إذْ ليس في الرباعيّات هزل ولامزاح ولاهجو ولامديح...وإنّما فيض من الحكمة والعبرة ؛ حيث تدور الرباعيّات في مدارالتذكير بالموت المحتم وقِصَر الحياة مهما تطلْ وعوادي الزمن ونفاق البشر ولؤمهم وعسف القدر والعيش بإباء ومحبّة وانتشاء بلاخوف ولا وجل من الموت المقدور العاجل أو الآجل... أيّ الإصرار على أن يحيا الإنسان رغم أنف الموت المتربّص وجور السّلاطين ووعاظهم المتفيقهين المنافقين المستحوذين على كلّ نّعم الحياة ، التي ينعتونها بـ (الجيفة والفانية) ، بينما يدعون عباد الله البؤساء والتعساء إلى الزهد والصبر في انتظار آلاء الحياة الأخرى الخالدة...كما لو أنّ الباري قد خلق البشر لمجرّد التعذّب والتألّم في الحياة وانتظار نعم الحياة الأخرى الآجلة!
ولابدّ أن أوجز ماهيّة معايير الفرز بما يلي :
   كل رباعيّة (كفريّة) أو (إباحيّة) أو (خمريّة عاديّة بلا مضمون فلسفي عميق) أو (غراميّة = غزليّة ) أو(صوفيّة) أو (دينيّة مناجاتيّة) أو (مستهترة أخلاقيّاً) أو (مزوّقة ، مبهرجة بديعيّاً) أو (رديئة شعريّاً لخلل وزني أو في القافية) أو (هابطة المستوى مضمونيّاً) أو كل رباعيّة لاتتناغم مع سيرة الخيّام (بألقابه الجليلة التي أضفاها عليه معاصروه) وأشعاره العربيّة وقطعاته الفارسيّة ومضامين رسائله الفلسفية و بعض ما جاء في رسائله العلميّة ، وكل رباعيّة تختلف بشعريّتها عن شعريّة الخيّام التي شخصتها سالفاً ، وكل رباعيّة وردت في مصادر متأخرة بعد (طربخانه/ 1462 م) بالإضافة إلى كل رباعيّة (توصّل الخيّاملوجيّون الثقاة  إلى معرفة صاحبها)
كلّ رباعيّة تنطبق عليها أيّة وصفة من الأوصاف أعلاه ؛ فهي ليست للخيّام .

* إذنْ ليس الخيّام زنديقاً ماجناً مثلما صوّره لنا أغلب الكتاب والمترجمين وشوّهوا حقيقته ؛ فهل هو متصوّف ؟
-  ينبغي أن أشير إلى أبرز الذين حسبوا الخيّام صوفيّاً ، فأوّلهم – حسب استقصاءاتي - هو عبدالقادر بن حمزة بن ياقوت أهري ، الذي أورد بضع رباعيّات له ضمن شواهده الشعرية المقتبسة ، الداعمة لآرائه في كتابه (الأقطاب القطبيّة/ سنة 1231م) والمشتمل على مباحث في التصوّف والحكمة. ويليه نيكولا الفرنسي (1814- 1875) الذي ترجم أكثر من (700 رباعيّة أصيلة ودخيلة) نثراً وفسّرها تفسيراً صوفيّاً ، ثمّ  عباس علي كيوان قزويني ، الذي قام  قام بتأويل صوفي – غنوصي لمجموعة كبيرة من الرباعيّات الأصيلة وغيرالأصيلة للخيّام ونشرها في 1926 وهناك آخرون يميلون إلى حسبان الخيّام صوفيّاً – عرفانيّاً أمثال : العلاّمة سيّد حسين نصر، د. غلامحسين ديناني ، ومن الهنادكه : عبدالرزاق كانبوري وعمر علي شاه ، ومن الترك عبدالباقي كَولبينارلي (1899-1982) الذي يعتبر الخيّام متأرجحاً بين الفلسفة والتصوّف ، بل  هنالك مريدون كثيرون في الشرق لـ (الخيّام الصوفي) وحتى في المغرب ، ولنا في مهرجان (فاس) الموسيقي أسطع دليل ؛ حيث حظي الخيّام بإحتفاء باذخ في دورته الثامنة عشر (8- 16 يونيو/ 2011) تحت شعار " تجلّيّات الكون" وكان من فقراته البارزة : أوبريت من إخراج الفنان الفرنسي توني جاتليف ، شارك فيه فنانون من جنسيات مختلفة ، وندوات إستحضرت تراث الخيّام الروحي بصفته (شاعراً صوفيّاً) وقد شارك في المهرجان  أكثر من 30 فناناً (بالموسيقى والأغاني والرقص ) من بلدان العالم : إسبانيا ، الهند ، باكستان ، إيران ، إيطاليا ، مصر ، تونس ، لبنان والمغرب ، ومن المتخصصين في الموسيقى الروحية ، الذين شاركوا فيه : الفنان أرشي شيب ، الفنانة الأميركية جوان بايز والمغنية الإسلندية بيورك ، ومجموعة جيبسي سونتيموتنو باكانيني من هنغاريا، كما شارك في حفلات المهرجان شيوخ الإنشاد الصوفي والغناء الهندي والباكستاني ، بالإضافة إلى الطرب الشرقي والعربي الأصيل الذي مثله الفنانان اللبناني وديع الصافي والتونسي لطفي بوشناق .
ومع كلّ ماسلف ؛ هناك من يردّ مزاعم الذين يحسبون الخيّام صوفيّاً ومنهم : الوزير و المؤرخ و اللغوي المصري جمال الدين القِفطي (؟ 1167– 1248م) والذي كتب في (إخبار العلماء بأخبار الحكماء) :
" عمر الخيّام : إمام خراسان وعلاّمة الزمان (...........) وقد وقف متأخّرو الصّوفيّة مع شيءٍ من ظواهر شعره ، فنقلوها إلى طريقتهم ، وتحاضروا بها في مجالساتهم و خلواتهم ، وبواطنها حيّات للشريعة لواسعٌ ، ومجامعٌ للأغلال جوامعٌ.."
وقد إستهجن الخيّاملوجي فروغي هذا المنحى : " إن بعض من حسبوا الخيّام صوفيّاً وأضفوا المعاني الصّوفيّة على رباعيّاته مخطئون " وكذلك يؤكّد المستشرق آربري على خطأ حسبان الخيّام صوفيّاً .  
أمّا العبد الفقير إليه تعالى فبعد دراسات شاملة ومعمّقة لسيرة الخيّام وأعماله الكاملة ومايتعلّق بعصره من فلسفات وآثار أدبيّة ؛ يمكنني القول أن الخيّام ليس متصوّفاً ، رغم تأثره بالتصوّف فكراً وسلوكاً إلى حدّ ملحوظ  ، إنما هو معتدل بوصفه إنساناً ، ومؤمن بوصفه فيلسوفاً مشائيّاً مقتفيّاً خطى أستاذه الشيخ الرئيس ابن سينا (980- 1037م)

* هل ستفلح  باستقصاءاتك الشاملة والمعمّقة أن تقدّم جديداً ما على صعيد الخيّاملوجيا ؟
- أجل..بالمساهمة في حلّ (اللغز الخيّامي) وفرز الرباعيّات الخيّاميّة الأصيلة عن الدخيلة والمدسوسة المستنكرة إلى حدّ مقنع ؛ بهدف ضبط ديوانه الحقيقي ، وتصحيح العديد من الأغلاط المارّة حتى على خيّاملوجيين إيرانيين ، واكتشاف تأثر عدد من الشعراء الإيرانيين القدامى والمعاصرين برباعيّات الخيّام (لم ينتبه إليهم حتى كبار الخيّاملوجيين الإيرانيين من قبل) أمثال : عبدالرحمن جامي (1414- 1492) / هلالي جغتائي ( ت : ؟ 1529) / أمير علي شيرنوائي (1440 – 1500) / الشيخ بهاءالدين العاملي (ت : 1622) / فرُّخي يزدي (1889- 1938) / نيما يوشيج (1897- 1959) / فريدون مشيري (1925- 2000) / علي جعفري (تولّد : 1944) وإيرج زبردست (تولّد : 1974)
وكذلك إنجاز (موسوعة الخيّام = رسائله العلميّة و الفلسفيّة و الأدبيّة محققة ومشفوعة بالحواشي الضروريّة) لأوّل مرّة في اللغة العربيّة ، بل في لغة أخرى (غير الفارسيّة) بالإضافة إلى ترجمة رباعيّات الخيّام الأصيلة وشبه الأصيلة وقصيدتين وقطعة فارسيّة إلى اللغتين العربيّة والكرديّة ، علماً بأني ترجمت أيضاً أشعاره العربيّة إلى الكرديّة ، في حين لم يترجمها حتى الخيّاملوجيّون الإيرانيّون إلى الفارسيّة لحدّ الآن !

* وما الذي يميّز ترجمتك لرباعيّات الخيام عن الترجمات السابقة ؟
- نادراً ما حظي شاعر آخر في العالم مثل الخيّام بترجمة أشعاره إلى اللغات الأخرى (لاسيّما الحيّة) حيث ترجمت رباعيّاته إلى قرابة مائة لغة ولهجة حتى الإسبرانتو، بل طبعها بخط بريل للعميان! فلا عجب و لاغلو في قول جنيه كَوردون أستاذ الأدب في جامعة فالونت باليونان : " لكلّ بلد شكسبيره وشكسبير إيران هو عمر الخيّام"
 ولكن مثل أغلب مترجمي رباعيّات الخيّام في العالم قاطبة كمثل (حطّابي الليل) فقد خلطوا بين الأصيل والدخيل في ترجماتهم ، حتى المترجمون من مستوى الشعراء : احمد رامي ، احمد الصافي النجفي ، عبدالحق فاضل وصالح الجعفري ! بل لم تسلم ترجمة أيّ منهم من الخطأ في نقل المعاني والأسلوب ، وليس مردّ بعض الأخطاء  إلى الجهل باللغة الفارسيّة ، وإنما هوس تقديم شعر منظوم (قريض) وقلّة الدراسات التحقيقيّة والنقديّة المعمقة المتعلّقة بشأن الخيّام وأعماله...  
  أمّا العبد الفقير إليه تعالى فلكوني قد أوليت الإهتمام بترجيح أولويّة نقل المعنى على الإنصياع لجمال المبنى ؛ فقد أضطررت إلى ابتكار طريقة (النثم = نظم + نثر مسجوع) في ترجمتي العربيّة وهي طريق تتوسّط (القريض الصّارم) و(النثر اللاموسيقي) مازجاً بين تفاعيل البحور الثلاثة (الخبب، الرجز والمتقارب) حتى أقصى الأوجه الممكنة (جواز الزحافات) وسمّيت بحري المبتكر بـ (أوقيانوس المخر= الأحرف الأولى من : متقارب ، خبب و رجز) ولقد بذلت قصارى جهدي ؛ من أجل التوفيق بين روحيّة متون الرباعيّات وحرفيّتها وإقامة التوازن والإنسجام بين المعنى والجرس دونما تضحية نافرة بأيّ منهما ، وأينما أضطررت إلى إضافة (غير موجودة في المتن الفارسي) ؛ لجلو معنى حيناً ، وحيناً لاستكمال مبنى (تقفية أو تسجيع) وحيناً لكليهما ، وضعت الكلمة بين قوسين مقرونين [ ] ولكوني شاعراً باللغتين الكرديّة والعربيّة ومترجماً للشعر إليهما عن بضع لغات شرقيّة وغربيّة ولكوني موسوعيّ التثقيف الذاتي ؛ أعتقد بأني قد أفلحت في تحقيق قسط كبير من طموحي ، ألا وهو أن يتميّز صنيعي الترجمي عن أغلب الترجمات العربيّة والكرديّة السابقة بالإبتكار (إلى حدّ مشهود) :
× إقتصر أغلب المترجمين السّابقين على ترجمة رباعيّات الخيّام دون التطرّق إلى الخيّام وأعماله الكاملة وعصره ، وهو النقص الذي تلافيته ، ليس بمقال تقديميّ فحسب ، بل بأكثر من كتابين باللغتين الكرديّة والعربيّة.
× إقتصرت على ترجمة الرباعيّات الخيّاميّة الأصيلة وشبه الخيّاميّة (حيث يُحتَمل أن يكون بعضها للخيّام) وقد حصرت أرقام الرباعيّات الأصيلة داخل القوسين (  ) وتركت أرقام شبه الخيّاميّة بلا أقواس .
× إلتزمت بالنقل الدقيق للمعاني والأسلوب ، مع عدم التضحية بالشعريّة قدر الإمكان .
× ثبّت المتون الفارسيّة للرباعيّات مع الترجمتين العربيّة والكرديّة (المتون الفارسيّة غير مثبّتة في أغلب الترجمات العربيّة والكرديّة وغيرها..)
× سلسلت الرباعيّات المترجمة (قدر الإمكان) حسب مواضيعها ؛ ممّا يساعد على التلقي الجيّد ، بالعكس من التسلسل العشوائي المشهود في أغلب الترجمات ، بل حتى في أغلب طبعات رباعيّات الخيّام بالفارسيّة !
× حشّيت كلّ رباعيّة تحشيةً مستفيضة ، وضحت فيها مايلي :
- مصادر ومظان المتون الفارسيّة للرباعيّات
- الروايات المختلفة للكثير من الرباعيّات ؛ فثمة رباعيّات لها روايتان أو ثلاث ، ناهيكم عن الروايات المختلفة للكثير من المصاريع
- نسبة هذه الرباعيّة أو تلك إلى غير الخيّام ، فثمّة الكثير من الرباعيّات تنسب إلى شاعر أو شاعرين أو أكثر
- تأثر وتأثير الخيّّام وهذا يتعلق بالكثير من الرباعيّات
- أسماء الأشخاص والأمكنة الواردة ...
- تواريخ ولادات ووفيات الأعلام ذوي العلاقة...
× مصادر ومراجع الترجمة والبحث والتحقيق

* حان أن أختتم حوارنا بالسؤال : ما الذي أنجزته من مشاريعك في مضمار الخيّاملوجيا ، وماهي مشاريعك المقبلة ؟
- باللغة العربيّة :
~ أنجزت (ديوان عمر الخيّام) ونشرته (دار الجمل) في 2010 (دراسة + ترجمة 74 رباعية وقصيدتين بالفارسيّة + 7 قطع عربيّة) ثمّ نقحته وزيّدته في (2011- 2012) بحيث صار كتابين مستقلين جاهزين للنشر:
~ (لنعرف الخيّام جيّداً/ دراسة)
~ (ديوان الخيّام = ترجمة نحو 180 رباعيّة + قصيدتين وقطعة بالفارسيّة + 9 قطع بالعربيّة)
~ (موسوعة الخيّام = رسائله العلميّة ، رسائله الفلسفيّة ، أعماله الأدبيّة الكاملة) تحرير وترجمة وتحشية ، وتقع في أكثر من (500 صفحة) وهي جاهزة للنشر منذ 2010
~ (الخيّام ماليء الدنيا وشاغل المترجمين...باناروما) جاهز للنشر
~ جميل صدقي الزهاوي ، ترجمتاه المنظومة والنثريّة لرباعيّات الخيّام ، تحقيق ونقد / قيد الإستكمال
~ أفضل الترجمات العربيّة لرباعيّات الخيّام ، نقد / قيد الإستكمال
~ أبرز الخيّاملوجيين في العالم / قيد الإستكمال
~ رباعيّات ليست للخيّام (الرباعيّات الدخيلة والمدسوسة...) ترجمة وتحقيق / قيد الإستكمال
~ مقالات ودراسات مختارة في الخيّاملوجيا/ ترجمة وتقديم / قيد الإستكمال
- باللغة الكرديّة :
~ رباعيّات الخيّام ، ترجمة : عوني ، تحقيق ، دراسة ونقد/ منشور في 2012
~ لنعرف الخيّام جيّداً / دراسة : جلال زنكَابادي ، ترجمة : حمه كريم عارف / قيد النشر منذ بداية 2012
~ (ديوان الخيّام = ترجمة نحو 180 رباعيّة + قصيدتين وقطعة بالفارسيّة + 9 قطع بالعربيّة)
~ رباعيّات الخيّام ، ترجمة : عبدالله كَوران ، تحقيق ونقد/ قيد الإستكمال
~ رباعيّات الخيّام ، ترجمة : خليل مشختي ، تحقيق ونقد/ قيد الإستكمال
~ الترجمات الكرديّة لرباعيّات الخيّام ، نقد/ قيد الإستكمال

* شكراً جزيلاً لك على هذا الحوار الدسم والشيّق
- ولك أيضاً ؛ فقد أتحت لي فرصة ذهبيّة لتبيان العديد من الحقائق الخافية على أغلب مترجمي رباعيّات الخيّام من العرب والكرد وغيرهم ، ناهيك عن جهل أغلب أدبائنا بها ...!  **
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* محمد الحجيري : صحافي وروائي لبناني
** نشرت جريدة (الجريدة) الكويتيّة ملخص هذا الحوار (3000 كلمة) في حلقتين بالعنوانين الآتيين :
1- جلال زنكَابادي : " لو عاد الخيّام لعجز عن فرز رباعيّاته "
2- جلال زنكَابادي : الخيام لم يكن صوفياً
وهنا ننشر نصّه الكامل  (6300 كلمة) ؛ لأهمّيّته المشهودة... 



                                              مع جلال زنكَابادي الذي


                      استبدل لقبه الأدبي تحدياً للتطهير العرقي

حوار أجراه :
عبدالزهرة علي/ بغداد

    جلال زنگابادي أديب اللغتين (الكردية والعربية) مبدع عراقي حقيقي نادر محارب،  بقي بعيداً عن الأضواء، لكنه لم يخنع ولم يمتثل ِ، ولم يبال بما أصابه من تهميش، ولم يثن أيّ إضطهاد عزمه. هكذا هو قامة عالية شامخة مثل قمم كردستان؛ فكان لنا معه هذا الحوار عن الجذور:
* لأن جلال زنكَابادي مبدع مهمّش ومغمور فعلاً ؛ فهلاّ  عرّفته لنا؟!
-  إنسان بسيط جداً ومواطن مملّخ من الدرجة الثالثة في هذا الوطن الثري جداً، إنّما لعتاة المفرهدين والأجانب المحتلين المرئيين واللامرئيين!

* هل من لمحة خاطفة عن محطات الطفولة والصبا وهذا اللقب الأعجميّ الطنّان(زنكَابادي)؟! 
- لقد استرجلني تيتّمي المبكّر وأنا في التاسعة من عمري (إثر اغتيال والدي) فقذفني في  أتون عالم الطين والجص والسمنت والعتالة والديديتي، وعالم الأدب والفن والفكر، منذ نعومة أظفاري! أمّا اللقب فنسبة إلى منطقة (زنكًاباد) الكردستانية الواقعة شمال مدينة جلولاء مباشرة وعلى الضفة الغربية لنهر سيروان(ديالى) حيث يستوطن فرع من عشيرتنا(بالاني= بالانيان) منذ أكثر من قرنين. وقد ورد ذكر اللفظة في وثائق الدولة العباسية وحتى السلطنة العثمانية، وخصوصاً في مجال الضريبة المستوفاة عن شلب(رز) المنطقة الشهير، والوقف، والأشعار الكردية والتركمانية، ثم توارت تدوينيّاً خلال القرن العشرين.

* ولم استبدلت (زنكَابادي) بلقبك الجميل (وردة)؟!
- لقد تخليت عن لقبي الأدبي(ورده) واخترت(زنكَابادي) تأكيداً لكردستانية مسقط رأسي، و تحدّياً للتطهير العرقي الذي مارسه النظام العفلقي بتهجير المواطنين الأصلاء(ومنهم أبناء عشيرتي) إلى محافظة الأنبار وغرب قضاء الخالص ، واستقدام الأغيار؛ بغية تغيير وتشويه الواقع الإثني والديموغرافي للمنطقة وتعريبها إلى الأبد. وقد عاد إليها أهلها بعد(28سنة) من الترحيل والنفي داخل العراق نفسه! أمّا العبد الفقير إليه تعالى فقد أفلحت فعلاً في مسعاي ببعث اللفظة وترويجها كهوية جغرافتاريخية للمنطقة، لاسيّما عبر وسائل الإعلام والثقافة الكردستانية(المقاومة) منذ ثمانينات القرن الماضي. ثمّ إن لفظة(وَرْدَه) رغم تماهيها مع اللفظة العربية الدالة على الورد، تعني بلهجتنا اللرية الممزوجة بالأردلانية (برج) على القلعة أو الحصن، حيث يراقب الخفراء ويطلقون الرصاص عبر مزاغله...ومنها اللفظة الكردية (وَرْديان= خفير، حارس) وجليّ  أن لفظة (ورديّة) الشائعة في المصرية الدارجة وبالدلالة نفسها وطيدة الصلة بجذر اللفظة الكردية. علماً أن تكرار اللفظة(ورده ورده= تهديد) و(ورد= الأرض البور)

* حسناً ..كيف تلقبت بـ (ورده= برج)؟!
- ورثته عن والدي المعروف بـ (حسين وَرْدَه) الجقماقساز(مصلّح وصانع أسلحة نارية وأعتدة) وهو أصلاً إسم والدته(أي جدّتي) عرفاناً لها على تضحياتها الجسيمة في تنشئة ولدها الوحيد اليتيم منذ السابعة من عمره؛ حسب العرف الشائع لدى بعض العشائر الكردية في تثمين جهود الأم المتفانية في تنشئة ابن يتيم ، يبرز من ثمّ ذا شخصية قويّة ذكاءاً وشجاعة. في حين يعد مثل هذا التنسيب إستهانة وشتيمة لدى العشائر الأخرى! وهكذا فقد ضحّيت باسمي (جلال ورده) ذي الشهرة المبكرة نوعمّا، وتشبثت بلقبي(زنكَابادي) الإستفزازي حتى لأقرب المقربين من أصدقائي المثقفين العرب! ولكن هيهات أن يقدّر الوسط الثقافي الكردي مثل هذه التضحية! ومع ذلك لايهمني إطلاقاً جحود هكذا وسط لهذه التضحية وغيرها...لاسيّما وقد حققت ما ابتغيته قرير الضمير، كمهمة من المهام الواقعة على عاتقي بصفتي أديباً كردياً/ عراقيّاً.

* لولا اليتم المبكّر الذي استرجلك عمرياً وفكرياً، و صيّرك شاعراً وكاتباً ومترجماً، ترى ماذا كان من المتوقع أن تكون؟
- كان المتوقع أن أصير عالماً مخترعاً؛ لتفوّقي الدراسي المشهود وشغفي الهائل بالإختراعات منذ طفولتي المبكرة، لكن يتمي المضاعف (لكوني أكبر أخواتي وإخوتي الخمسة) قد قصّ أجنحة طموحي في  إكمال دراستي؛ فضحّيت بتفوقي مكتفياً بإكمال دار المعلمين الإبتدائية؛ لبلوغ أقرب وأسرع مورد لإعالة إخوتي ورعايتهم دراسياً، لكنهم للأسف الشديد خذلوني أيّما خذلان بفشلهم الدراسي، الذي تسببته أساساً والدتي الجاهلة؛ فراحت تضحيتي الهائلة أدراج الرياح، بل وغدوت أنا المدان لدى الجهّال بحقائق وضعنا العائلي!

* إنها حالة غريبة فعلاً فمهما كانت الأم جاهلة فهي تحلم بتفوّق أولادها وبناتها؛ فكيف تسببت والدتكم في فشل أخوتك ، كما تزعم؟!
-  باختصار كانت والدتي على خلاف دائم محتدم مع والدي المناضل ضد إقطاعيي وآغوات عشيرتنا، الذين أفلحوا في استعداء سلطات العهد الملكي عليه غير مرّة، فذات مرة (مثلاً) أحالوه إلى المحاكم العرفية بحجة اختراعه لناعور يشتغل على قوة الماء ليل نهار، بدون براءة إختراع! وهو الأمر الذي كان يتهدد سيادتهم ومحاصصتهم الجائرة مع الفلاحين؛ بصفتهم مالكين لجدول ماء! على كل حال، تمكنوا من تهجيجه في مطلع1953إلى مدينة جلولاء، والإستيلاء على أرضه الزراعية(قرابة 23دونم) وأخيراً تمكنوا من إغتياله في تشرين الثاني /1960 ولذلك كانت والدتي تريد منّا أن نصبح أناساً عاديين جداً، ونساير ونوالي السلطة الحاكمة مهما كانت! وطالما كانت تنعتني بالمجنون لتفوقي في شتى المجالات، وكانت تحزن؛ كلما نحجت الأول على صفي، بل  كانت تريد أن أصبح بقالاً أو بنّاءاً، وتحذرني بأن مصيري سيكون نفس مصير والدي آجلاّ أم عاجلاً! ولذا فقد أفلحت في جرّ أشقائي الصغار والمراهقين إلى سبيلها المنشود أثناء غيابي عنهم (كانوا في جلولاء) خلال دراستي في كركوك، ثم إلتحاقي بالخدمة العسكرية الإجبارية؛ فضاع مستقبل أشقائي، أمّا شقيقتاي فقد تمكنّا من تعليمهن القراءة والكتابة في البيت، لأن أمي رفضت إدخالهن إلى المدرسة! وهكذا تدمّر مستقبل  أشقائي الثلاثة في خدمة البسطال العراقي بما مجموعه أكثر من 30سنة ! ولقد زاد زواجي من فتاة مثقفة( لا من إحدى الأميات في عشيرتنا) من شقة الخلاف بيني وبين والدتي وأقربائي...وهنا تجدر الإشارة إلى أن الكاتب شاكر نوري(خال أولادي) قد كتب روايتيه (نزوة الموتى) و(نافذة العنكبوت) مستلهماً قصة والدي القتيل وشقيقي الأصغر الراحل رحمن (الشاعر والصحافي) إستناداً إلى روايتي ورواية أم أولادي (شقيقته)

   *  لقد واكبت حركة التجديد في الشعر العراقي، وكانت اسماء مثل بدر شاكر السياب والبياتي ونازك. لها تأثيرها الفاعل في الشعر العربي عموماً. ما مدى تأثير تلك الحركة التجديدية على شعرك؟

- من البداهة انني لم أواكب بصورة فعلية حركة التجديد في الشعر العراقي؛ لكونها انطلقت ببضع سنين قبل ميلادي(1/12/1951) لكنني سرعان ما إنتبهت إليها بوعي ناضج في 1964 بعد استغراقي في القراءة الشرهة منذ مطلع1961

* حسناً ماذا كانت طبيعة قراءاتك التي هدتك إلى حركة التجديد وأنت في عمر المراهقة؟
- طبعاً كانت أدبية: دواوين الزهاوي والرصافي وشعراء المهجر... ومؤلفات: المنفلوطي، جبران خليل جبران، سلامة موسى والعشرات من روايات المغامرات وروايات (الهلال) ومجلات: المغامر، العالم ،المختار،و الهلال...والعديد من الكتب الأخرى، التي أثرت في لغتي وتوجهاتي الأدبية والفكرية مثل: القرآن الكريم، رباعيّات الخيّام، ألف ليلة وليلة، تاريخ الكرد وكردستان لمحمد أمين زكي بكَـ  بترجمة: محمد علي عوني، مختار الصحاح، مقامات الحريري، نهج البلاغة، و ميزان الذهب في صناعة شعر العرب، الذي دفعني إلى نظم الشعر الموزون والمقفى منذ مطلع 1963 طبعاً مشفوعاً بتفجّر مشاعر المراهقة وتحسس بؤس وتعاسة اليتم والظلم القومي والطبقي، وإذا بنقلتي القرائية في 1964 تفتح لي بوّابة الإطلاع على أشعار: السيّاب ، بلند الحيدري، البياتي، نزار قباني، سعدي يوسف...حتى محمود البريكان! عبر مجلات: الأديب، المعارف ،الآداب، أهل النفط، و العاملون في النفط ... بالإضافة إلى مجموعاتهم الشعرية، والإطلاع أيضاً على أوليات الفكر الماركسي والفلسفة الوجودية، وهنا تجدر الإشارة أيضاً إلى سلسلة(كتابي) المربّية الرائعة لحلمي مراد ، والتي لن أنسى منها قطعاً: ترجمة الإلياذة البديعة لأمين سلامة...ولكي لاأبتعد أكثر عن الإجابة المنشودة أقول: بدأت في أواخر تلك السنة أكتب الشعر على طريقة رواد الحركة التجديدية، وأهجر عمود الشعر تدريجياً حتى القطيعة النهائية معه في 1967 لكن ممارستي الكتابة على طريقة أولئك الرواد لم تدم طويلاً، فقد جاءت القطيعة النهائية معها في أواسط 1968 لأنني كنت قد تجرثمت بـ (قصيدة النثر) في أواخر1965 بالإطلاع على أعداد من مجلة(شعر) اللبنانية؛ وشرعت بكتابتها منذ مطلع1966 لكن بتهيّب، ثم حدثت النقلة الحاسمة(بعد إكمالي مرحلة الدراسة المتوسطة في جلولاء) بإلتحاقي طالباً بدار المعلمين في كركوك في خريف العام نفسه،أي بعد مرحلتي الجلولائية (1961-1966) حيث بدأت مرحلتي الكركوكية (1966-1969) وبدأت التعرف إلى كوكبة من الأدباء الكرد والعرب والتركمان والآثوريين، والحق كان لكركوك أبلغ الأثر في مسيرة تثقيفي الذاتي وممارستي الكتابة الإبداعية، وأقصد (قصيدة النثر) مع عدم قناعتي بهذه التسمية (التي تشد المفارقة بخناقها) لحد الآن، وأرى مصطلح (القصيدة الحرة) هو الأصح لها (كفانا الله شر لخبطات اجتراح المصطلحات واستخداماتها..) وذلك قبل مرحلتي البغدادية (1970-1971)..

* عذراً على المقاطعة، باستعراض خلطة قراءاتك الواسعة والمتنوعة؛ غابت عنا ماهيّة تأثرك بالحركة التجديدية؛ حبّذا لو تختزل إيضاحك.
- آسف على إسترسالي المقصود به تبيان السياق التاريخي لأدوار إستحالتي الشعرية المترابطة جدلياً مع قراءاتي...أمّا إختزالاً، فأجزم أن تأثير (الحركة التجديدية) المقصودة كان قصير الأمد وضئيلاً غيرحاسم، في مشواري الشعري، إذ كان متداخلاً مع مرحلتي الإنتقالية، إذ تعايشت (العروض) و(طريقة التفعيلة) و(قصيدة النثر) في أشعاري! وأرى ان التأثير الحاسم على طريقتي الفنية في الكتابة ( لا على مواضيع قصائدي ومضامينها) حتى مطلع سبعينات القرن الماضي، يعود إلى ترجمات مجلة(شعر) وشعراء آخرين، منهم : أدونيس، خليل حاوي ، أنسي الحاج والماغوط...وهنا تهمني الإشارة أيضاً إلى : بلند الحيدري و صلاح عبدالصبور. ولابدّ أن أضيف بأني تيقنت في مطلع تسعينات القرن الماضي أن لويس عوض هو الرائد المؤسس  الناضج المتكامل ثقافة ونصاً وتنظيراً للحركة التجديدية بمنجزه الشعري الفذ(بلوتولاند وقصائد أخرى من شعر الخاصة) المكتوب خلال السنوات(1938-1940) والمنشور في كتاب عام1947لكنه للأسف الشديد سرعان ما مال إلى الترجمة والبحث، مغيّباً نفسه عن مضمار الشعر؛ فغيّبت لاحقاً حتى ريادته المشهودة!ولاتقتصر هذه الحالة(التي أحسبها ظاهرة) على الريادة في الشعر العربي الحديث، بل إكتشفت مثيلاتها عبر إستقصاءاتي في الآداب: الكردية، الفارسية، التركية والأفغانية... 
        
 * بالإضافة إلى اليُتم المبكر، والإضطرار إلى الإشتغال في شتى الأعمال والحرف، ثم التعرض لصنوف الجور والعسف، كنسف منزلك والتهجير واستبقائك 17سنة معلماً في القرى البعيدة والنائية الموبوءة...ياترى هل انعكست هذه السيرة (المكتظة بالمعاناة والمحن المريرة) على صفحات  ديوانك(جلالستان) الذي رأت العشرات من قصائده ومطولاته، النور هنا وهناك؟
- رغم ان الشعر وحده غيركاف لذلك، أقول: أجل؛ إنعكست سيرتي المريرة والحلوة( طبعاً لم ولن تخل من مباهج هائلة عاطفية ومعرفية) إنعكست بصورة جمالية في كل ماكتبت ، لكنما ليست بتقريرية فجة، أو سردية وصفية، إنما بصورة فنية متجلية حتى في أقصى صوري الشعرية السوبرسوريالية، بل يمكنني الزعم: قلما كتبت قصيدة متفاصمة مع حياتي ومصائر شعبي وكوكبي حتى جباله، أنهاره، أشجاره، حيواناته، حشراته ومتحجراته...! لقد كنت منذ البدء عند كتابة أيّة قصيدة رهين معطيات الواقع المعاش، والتي يوازي تأثيرها وربّما غالباً ما يتجاوز تأثير قراءاتي رغم غزارتها وتنوعها...ولابدّ هنا من البوح انه منذ مطلع سبعينات القرن الماضي أخذ تأثير قراءاتي الشعرية يتضاءل تدريجياً على نصوصي الإبداعية بالمقارنة مع تأثير الأجناس الأدبية الأخرى والفنون التشكيلية والعلوم الإنسانية،لاسيّما التصوف... ولأن القصيدة(حتى الملحمية) تظل عاجزة عن أن تكون الحاضنة الوحيدة لكل أبعاد شاعرها؛ فكان لابد من توظيف: الترجمة،المقالة، القصة والدراسة، وربما الرواية والمسرحية لاحقاً؛ للمقاصد نفسها.

* ولماذا هذه التسمية التي تسودها النرجسية لديوانك(جلالستان)؟!
- إذا كانت هذه التسمية كما وصفتها؛ فإن كل شعراء العالم نرجسيون حتى الزهّاد والمتصوفة، مادام مجموع أشعارهم سمّي، أو سمّوه بأنفسهم مثلاً: (ديوان أبي العلاء المعرّي)، (ديوان حافظ الشيرازي)، (ديوان فضولي البغدادي) و(ديوان الملاّ احمد الجزيري)...أي انني لم أخالف العرف مبدئيّا، بل نقلت التسمية إلى العمق والأفق الغنوصيين. ولئن سُئلت غير مرّة عن فحوى تسمية ديواني بـ (جلالستان) فقد وجدت الآن الفسحة المناسبة للتعليل. إن تكريس إسمي الشخصي لهذه التسمية التي تعني بالعربية(بلاد= مملكة= وطن جلال) لم يجيء بدافع نرجسي (مثلما يتصوّره الكثيرون) وإنما عنيت (وهذا من حقّي كإنسان مستضعف ومغترب حتى في وطنه) بـ (جلالستان) وطني الحقيقي الحرّ المستقلّ (الباطني، الروحي والمعنوي) المشيّد بالقصائد(و لو!) والذي لم  و لا و لن يمتثل ذات لحيظة لهيمنة أيّة أطالس للقوى الخارجية (السياسية، الآيديولوجية.. وإمبراطوريّاتها مهما عظمت شوكاتها) وعليه فإن (جلالستان= وطن جلال) بمثابة الملاذ والملجأ من شرور الخارج، بالإضافة إلى ثورته الدائمة على العالم المعادي لإنسانية الإنسان. ولأنني شاعر غنوصيّ (باطني، عرفاني) فقد عنونت أولى مجموعاتي الشعرية بـ (شظايا من نفير البحر/ 1967-1969) - وهي أكثر من 200قصيدة ومضيّة - قاصداً بالبحر(عالم باطن الذات الإنسانية) وليس البحر بمفهومه الجغرافي. يبدو أن هنالك من يستكثر على المنفيّ أو "أغرب الغرباء في وطنه/ التوحيدي" حتى وطنه الباطني المشيّد من الكلمات (لا الدولارات المختلسة من بيت المال!) ثم إنني ومنذ البدء أكتب الشعر لا الشعار الذي يكتبه آلاف الشعارير العرضحالجية المستنسخون كاربونياً هنا وهناك والذين سرعان ما يسّاقطون كأوراق الخريف، ولنا في شعارير الأنظمة الطغيانية أسطع الأمثلة. بل أجهر أيضاً بأني أكتب الشعر لنفسي وللنخبة وللمتلقين في ضمير المستقبل؛ مهما استغلق فهمه الآن على الآخرين، الذين أكتب لهم المقالات والأبحاث وأترجم لهم. تصوّر حتى زوجتي الحبيبة الغالية تتشكّى دائماً من عنادي اللعين بعدم أخذ المتلقين في الحسبان، لكنني لم أمتثل لرجاءاتها المتواصلة لأكتب مايفهمه الآخرون بأسرع مايمكن! وهي طالما تردد: " حتى أغلب الأدباء لايفهمون قصائدك!" فأدافع عن نهجي : " وما ذنبي إن كانوا كسالى في تثقيف أنفسهم، بينما يدعي أغلبهم الإحاطة الشاملة بكل عوالم الأدب والفن والفكر؟! ثم إنني لو كتبت قصائد ضحلة جماهيرية سريعة الفهم وجالبة للشهرة الآنية، سوف لن يرحمها المستقبل" ومابرح هذا الجدال قائماً بيننا منذ مطلع1974ولم نتوصّل إلى أيّ توافق!  
        
* تتميّز إجاباتك بالدقة والتركيز والطرافة ً؛ فهلاّ بيّنت مرتكزاتك، خصوصاً وأنت تعوّل على(الصورة الشعرية) لجلو المضامين، وهذا يتجلّى في أغلب قصائدك.  
- لعل أوّل مرتكزاتي، بل أساس (شعريّة قصائدي الحرة) يعود إلى كوني بدأت الرسم  قبل دخولي إلى المدرسة، وكانت موهبتي ممتازة فيه، وقد مارسته حتى تخرجي معلماً ، ثمّ إنني استفدت مبكراً من منجزات الشعراء التصويرين النصّية والتنظيرية بريادة العبقري (المغدور) إزرا باوند؛ وعليه أحسب نفسي (شاعراً تصويرياً) حيث التحمت مبكراً موهبتاي في الرسم والشعر، ومن هنا جاء اهتمامي المبكر بطابوغرافيا القصيدة على وجه الورقة..وبالطبع كان للمزيد من القراءات والتنظيرات دوره المؤثر في نزوعي الراسخ هذا؛ فقد بدأت أتابع بالإنكَليزية قراءة الشعر البريطاني والأمريكي والعالمي منذ 1969 بفضل المبدع الكبير جليل القيسي صديقي وأستاذي ( من قبل ومن بعد) إذ وبّخني ذات يوم في 1968 توبيخاً أبكاني، بل كدت أن أقطع علاقتي به؛ لولا القليل من الحكمة ورباطة الجأش، حين خاطبني : " جنابك تريد أن تحقق فتوحات جديدة في عالم الإبداع ، ولاتجيد اللغة الإنكَليزية؟!"

* ثمّ ماذا عن أستاذك القيسي القاسي؟!
- تغمّده الله برحمته الواسعة.. أثمة أحلى من قسوته البنّاءة؟! لقد كان جليل القيسي مبدعاً ومعلّماً عصامياً كبيراً إستثنائيّاً( للكثيرين...) فهو الذي حرّضني على التهام المئات من أفضل الكتب(الأدبية، الفلسفية والنفسية...) في مكتبة كركوك المركزية...ولايمكنني أن أنسى إختباره لصبري وجلدي ومستوى ذكائي واستيعابي بكتاب(علم الجمال) لجورج سانتيانا ورواية ( موبي ديك) وأنا فتى في السادسة عشر من عمري! ثمّ كيف أنسى توبيخه الآخر المثمر: " أليس عيباً عليك تجيد العربية كل هذه الإجادة؛ ولاتجيد لغتك القومية؟!"

* هل يعني أن الفضل يعود إلى الأستاذ جليل القيسي في انكبابك على تعلم اللغتين الإنكَليزية والكردية؟
- أجل؛ كان له الفضل الأكبر في حثي على المضيّ في تطوير قابلياتي وقدراتي في كلتا اللغتين لبلوغ مستوى القراء ة الجادة والكتابة بهما والترجمة عنهما بصفتهما أعلى مهارتين تتجاوزان الفهم والتحدث؛ فقد كانت إنكَليزيتي لابأس بها، كما كنت أتحدث بلهجة كردية جنوبية(شبه فيلية- كلهرية، تسودها اللهجة الأردلانية) وهي غيراللهجتين الأدبيتين الرئيستين(الكرمانجيتين الشمالية والجنوبية) ولقد شغفت جداً منذ مرحلة الدراسة المتوسطة بتعلم نصف دزينة من اللغات: الهندية، الفارسية، التركية، الروسية، الألمانية والإنكَليزية إعتماداً على كراريس(كيف تتعلم ......في أسبوع بدون معلّم)! مع الإنصات إلى محطات الإذاعات، ولأن قوة ذاكرتي (التي لاينكرها حتى أعدائي) أعانتني على هاتيك الكراريس عن ظهر قلب، ورحت أتصيّد السيّاح الأجانب هنا وهناك؛ لأستدرجهم وأتحدث معهم بما يثير تعجبهم، ولكن طالما كنت أخرس كالببغاء؛ كلما خاطبوني بما ليس في كراريسي! أمّا غنائي باللغات: الهندية، الفارسية والتركية، فضلاً عن العربية والكردية؛ فطالما لامني بسببه أصدقائي وزملائي ومعارفي لعدم إنخراطي في عالم الفن وعدم استغلال واستثمار مواهبي الغنائية والموسيقية والتشكيلية، بالإضافة إلى وسامتي الطبيعية وبنيتي الرياضية؛ لأصير نجماً فنياً لامعاً بعيداً عن عذابات عالم الأدب والفكر اللامجديين! ومادامت السؤال يتعلّق باللغات؛ أضيف : لم تقف فورة مراهقتي عند ذاك الحد، بل دفعتني إلى إختراع لغة جديدة (إسبرانتو خاصة بي) ذات مفردات غيرمأخوذة من اللغات الأخرى، وتستند إلى قواعد العربية مع التبسيط، وتكتب من اليمين إلى اليسار بأبجدية مشتقة من الأشكال الهندسية. وما إن شرعت بتعميمها على أقراني وأترابي؛ بقصد إختبارها وتطويرها؛ هبّ بعض معارفي الكبار ناصحين إيّاي بالكف عن تلك اللعبة الخطيرة، التي تعد كفراً في المنظور الديني ومساساً بالأمن الوطني؛ ومن المؤكّد أن أروح في(داهية)!
 إذنْ لولا بذرة الموهبة الصالحة، بل جنوني اللغوي المبكر؛ لما أثر فيّ حث معلمي القيسي. ولابدّ من التأكيد على ان تعلمي للغة الأدبية الكردية بكلتا اللهجتين الرائجتين قد فتح لي باب تعلم اللغتين الفارسية والتركية العثمانية على مصراعيه؛ إثر تمشيطي القرائي لدواوين الشعراء الكرد القدامى، الذين إحتوت دواوين العديد منهم أشعاراً كثيرة بتينك اللغتين، فضلاً عن العربية. ليس هذا فحسب، بل لكوني دخلت حلبة اللغة الأدبية الكردية كشبه أجنبي؛ فقد إنتبهت إلى ضرورة تعلم اللهجتين الأخريين أيضاً(الهورامانية= الكَورانية) و(اللرية= لهجتي الأم) الثريتين بالتراث الشعري والفولكلوري؛ ومن هنا حزت على قصب تفوقي اللغوي على أغلب الأدباء الكرد، الذين لايجيدون سوى إحدى اللهجتين(الكرمانجيتين: الوسطى والشمالية) ناهيكم عن تفوّق إضافي آخر، ألا وهو إضطراري إلى تعلم الكردية بالكرمانجية الشمالية وبالأبجدية اللاتينية، منذ(1970)، وهي الأبجدية التي لايجيد أغلب الأدباء الكرد القراءة والكتابة بها لحد الآن!
 لربما يستغرب البعض إسهابي في الحديث عن تعلم اللهجات الكردية؛ فعذري أن اللهجات الكردية قد تباعدت عن بعضها البعض قواعدياً وقاموسياً وفونوتيكياً؛ بحيث تكاد أن تبلغ الفروقات فيما بينها، جلّ الفروقات بين اللغات المستقلة: ( الإسبانية، البرتغالية، الكتلانية، الغاليثية، الإيطالية، الفرنسية والرومانية) والتي هي من أرومة واحدة، حسب استقصاءاتي البحثية. ومع ذلك مابرح حتى أغلب أدبائنا وباحثينا الكرد يتعاملون مع الحقيقة الساطعة لـ (غياب اللغة الأدبية الكردية الموحدة) تعامل النعامة! أمّا الساسة الكُرد فحسب الواحد منهم أن يعلّق نسخة من خارطة(كردستان الكبرى، بعضها يبتديء شمالاً بساحل البحر الأبيض ويبلغ مضيق هرمز جنوباً) في مكتبه وراء ظهره( مشفوعة بمكتبة من الخشب الراقي جداً مكتظة بالكتب الضخمة المذهبة والبراقة الأغلفة) مرهباً وخادعاً بها سواد الشعب الكردي البائس كأسلوب ديماغوغي، ومستفزاً غير الكرد في الوقت نفسه! وهكذا كفتنا الخرائط الزاهية مكابدات ومجاهدات توحيد اللغة الكردية ضمناً!      
   
* حسناً..علمنا  أن تعلمك للغة الأدبية الكردية يسّر لك الإقبال على تعلم اللغتين الفارسية والتركية، فضلاً عن اللهجات الكردية الأخرى؛ فهل لك طريقة في تعلم اللغات الأجنبية ، حيث ركنت إلى التثقيف الذاتي مبكراً؟
- إذا توافرت الرغبة الجادة والمثابرة والمواظبة المستميتتين لدى المتعلم ذاتيّا؛ يكفيه تعلم قواعد اللغة المعنية بمستوى المرحلة المتوسطة مع(1200مفردة أساسية ضرورية) ليشق طريقه ذاتيّاً نحو الإجادة والإتقان، طبعاً بالمزيد من القراءة، لكن أغلبيّة اللغات عسيرة التعلم ذاتياً كاللغات: الصينية، الروسية، الفرنسية، العربية، الألمانية، الكردية والباسكية...أمّا اللغات اليسيرة التعلم ذاتياً فمنها: الفارسية، التركية، الإسبانية، البرتغالية، الإيطالية، الأوردية والإسبرانتو...طبعاً يتوقف الأمر على انتماء المتعلم لهذه العائلة اللغوية أو لتلك، إضافة إلى خزينه اللغوي والثقافي؛ إذ ماأسهل على الإسبان، الطليان، الكتلان، البرتغاليين، الغاليثيين والرومانيين أن يتعلموا لغات بعضهم البعض في فترة قياسية قصيرة! وكذا الحال في الجيرة اللغوية؛ فمن السهل أن يتعلم الإيراني اللغة العربية ويتعلم العربي اللغة الفارسية، لكن ليس بسهولة تعلم الكردي لها؛ لكون الفارسية والكردية من عائلة واحدة، فضلاً عن الجيرة اللغوية. وتتعذر عليّ الإستفاضة أكثر لضيق الفسحة.
       
* شكراً لهذا الدرس اللغوي..ولنأت إلى مدى تأثير إطلاعك الواسع ببضع لغات شرقية وغربية في نتاجك الشعري.
- لايقتصر التأثير في نتاجي الشعري، بل يتعداه إلى نشاطي الترجمي وحراكي الثقافي العام. لاتضفي معرفة اللغات الأخرى شيئاً يُذكر على الأديب الكسول، الذي لايستثمرها. وربّ أديب عربي عراقي لايقرأ بسوى اللغة العربية (لكنه قاريء نهم يستوعب ويتمثل مايقرأ) يتفوّق إبداعياً على زملائه التنابلة، وحتى بعض الشطّر منهم في البلدان الأوربية! أي ليست العبرة بتعددية اللغات، إنّما باستثمارها الحسن، وأزعم أني لست من الكسالى؛ فعلى سبيل المثال، لا الحصر، قرأت الكوميديا الإلهية لدانتي باللغات: العربية، الفارسية، الإنكَليزية والتركية(وسأظل أتحسّر  حتى الموت على قراءتها بالإيطالية!) وقرأت ملحمة (الفردوس المفقود) لميلتون باللغتين الفارسية والإنكَليزية( مع قسم منها بالعربية) وقرأت أغلب أشعار إليوت باللغات: العربية، الإنكَليزية ،الفارسية،الإسبانية والكردية. وقرأت أغلب أشعار ناظم حكمت باللغات: العربية، الفارسية، التركية،الكردية، الإنكَليزية والإسبانية. وقرأت أغلب أشعار أوكتافيو باث باللغات: الإسبانية، العربية، الإنكَليزية، الفارسية والكردية. وقرأت أكثر أشعار فيرناندو بيسوا باللغات: العربية، الإسبانية، الإنكَليزية، الفارسية(مع الطلاع على متونها البرتغالية) وقرات العديد من قصائد الشاعر الباكستاني فيض احمد فيض باللغات: العربية، الإنكَليزية، الفارسية( مع الإطلاع على متونها الأوردية) ولقد قرأت المزيد لمئات الشعراء القدامى والمحدثين الكبار في العالم باللغات: العربية، الفارسية ( وامتداداتها التاجيكية والدرية الأفغانية)، الإنكَليزية، الإسبانية، التركية ،التركية الآذرية والكردية...لم يسمع أقراني الشعراء(ذوو اللغة الواحدة، وحتى ذوو اللغتين): الكرد،العرب والتركمان..لم يسمعوا حتى بأسمائهم؛ فكيف تستوي تغذيتي الثقافية المتعددة المتنوعة وتغذيتهم الأحادية؟! وعليه فقد توسّعت وتعمقت رؤيتي ورؤياي، وتعددت مواضيعي واكتز معجمي الشعري، أي اغتنت لغتي الشعرية(بالكردية والعربية) قاموسياً، ناهيك عن الإبتكارات الجديدة؛ فالمقارنات والمقاربات اللغوية تشحذ ملكة الإبتكار والإشتقاقات الجديدة، كما ترهفّت لغتي واكتنزت أيضاً بالإيجاز مع ثرائها، وتعمّقت مضامينها المتجسّدة في الصور، ورحت أعامل(عند الكتابة والترجمة) حتى الحرف الواحد من كل لفظة ككائن حي.. وقد أضطر أحياناً إلى مراجعة  بضعة قواميس(ببضع لغات) نشداناً لضبط  دقة معنى أو دلالة لفظة في سياق جملة أو عبارة.
  لقد قرأت وسمعت منذ صغري مراراً " كل لسان بإنسان" إذنْ ألا تتشابه التعددية اللغوية وتعددية الأسلحة؟ وهنا تذكّرت ماقاله لي العزيز الشاعر سركَون بولص ذات ليلة من ليالي مربد1985 وكان ثالثنا الشاعر جان دمّو(الذي كف ليلتئذ عن عبثه المعهود، بل كان في منتهى التعقل والجدّية والنقد الذاتي) إذ سهرنا حتى الصباح الباكر متناقشين في شؤون الشعر وترجمته وفلسفة الزن والشعر الصوفي، لاسيّما الإيراني.. قال لي سركَون: " إنك لمحسود على قراءتك لسعدي شيرازي وجلال الدين مولوي وحافظ  بالفارسية منذ شبابك الباكر! أمّا أنا فقد إنتبهت متأخراً إلى عظمة الشعر الصوفي وبدأت أهتم بقراءة أشعار جلال الدين بالإنكَليزية"    
   إذنْ فقد جعلت التعددية اللغوية شعري مختلفاً عن المشهد السائد، بل وجعلتني مختلفاً عن أقراني في مجمل مشاريعي الثقافية تأليفاً وترجمة.         

* قصيدة النثر وإشكالاتها هل تعدّها حالة تجديدية في الشعر العراقي؟
- يمكن أن تعد قصيدة النثر حالة تجديدية في الشعر العراقي من حيث التنظير بالإستناد إلى المنجز الأوربي، لاسيّما الفرنسي، ثمّ من حيث تصاعد زخم كتابتها منذ أواسط ستينات القرن الماضي، وإلاّ فإن جذورها تضرب في الميثولوجيا الغابرة والكتب الدينية السماوية والأرضية وآثار المتصوفة النثرية، حتى كتابات العديد من روادها المجهولين وشبه المجهولين في أوائل وأواسط القرن العشرين من جبران والزهاوي وغيرهما..حتى الأديب عبدالمجيد لطفي والشاعر حسين مردان. لكن دراويش(المركزية الأوربية) من شعراء ونقاد وباحثين يسعون دائماً إلى التجسير بين أيّ منجز إبداعي عراقي أو عربي أو شرقي وبين منجزات الغرب والإشادة بتأثيراتها الحاسمة. ومع ذلك ثمة آخرون قلائل يصيبون بأبحاثهم الساعية إلى تأصيل جذور قصيدة النثر في تراثنا الثر العريق، ثم العروج على المؤثرات الغربية.

* بم تعلل تهميش أكثر الأدباء والفنانين المبدعين على الساحة الثقافية حتى في فضاء الديمقراطية الحالية..؟
- التهميش(وهو غالباً مصير المبدع المستقل سياسياً) ظاهرة تستوجب العديد من البحث والدراسة، فلها أسبابها الموضوعية والذاتية والمتداخلة، وأعني بالسبب الموضوعي واقع مجتمعنا الإزدواجي المتخلف بأبعاده: السياسية، الإقتصادية والثقافية. وهو واقع تسوده العنعنات العشائرية، الطائفية والشوفينية، التي تستولد: التمييز،المحاباة ،المحسوبية،المنسوبية،الإنتهازية، الحسد، المقايضة، الضغينة والتفرقة، ...بل يطغى عليه النفاق بكل أبعاده المعروفة؛ لأنه يفتقر أصلاً إلى سيادة سلطة القانون وشروط المواطنة الجوهرية واحترام حقوق الإنسان. أمّا السبب الذاتي فيتعلّق بذوات المثقفين أنفسهم؛ فأكثرهم ذيليون إنتهازيون يتوافقون ويتآلفون مع هذا المجتمع العليل وأحزابه المريضة ؛ بغية ترتيب بيوتهم الخاصة، فتراهم يهادنون ويساومون مؤسساته المحاصصاتية( السياسية والثقافية...) وطالما يتشدقون أن كلّ شيء على مايرام! ومع ذلك لايفوز بمغانم ونعائم الجيفة(الدنيا) إلاّ القلائل الخبراء الماهرون في أكل الأكتاف. في حين نجد القلائل من المبدعين الإستثنائيين يربأ الواحد منهم بنفسه عن أن يتهالك ويتناهش الجيفة، بل ويكافح في سبيل إصلاح وتغييرالمجتمع المريض، وإذا بموجات الأكثرية العاتية تكبته وتقمعه وتقذفه إلى الهامش الصخري مهشماً تحت الإقامة التعتيمية، أو يوظفونه أحياناً (إن ارتضى هو) كقطعة إكسسوار لإضفاء التكاملية الشرعية على ديكور المشهد الثقافي الرسمي. ومع كل ذلك نجد بعضهم حتى لو ظلّ رهين الظلّ لايصمد فحسب، بل ينتصر في نهاية المطاف بمنجزاته الإبداعية على الغوغاء من شعارير حقول الدواجن الايديولوجية ومن لف لفهم من المدّاحين- النبّاحين ذوي الكفاءة التصفيقية العالية، المتواشجة مع الكفاءة الفرهودية لأربابهم الساسة، ولنا في المبدع محمود البريكان أسطع مثال. ولاتقتصر هذه الظاهرة على كردستان والعراق وحدهما ، وإنما تعمّ العالم بأسره منذ القدم، ولكن بدرجات متفاوتة هنا وهناك. باختصار يرتطم المبدع الحقيقي المستقل في كل زمكان بـ (الكيل بأكثر من مكيال) فكيف ترى يكون حاله في زمكاننا هذا، حيث تسود المحاصصات( المعاصصات والمصالخات) الحزبية والعشائرية والولاءات الشخصية سائرالأجهزة والدوائر الثقافية الرسمية واللارسمية، حتى داخل الحزب الواحد، والخليّة الواحدة...؟! ولأن روح المقاومة الإنسانية والنزعة التقدمية تكمن وتتجلى في كل إبداع حقيقي؛ فإن المبدع الحقيقي المستقل بطبيعته إستثنائي نادر محارِب ومُحارَب في آن واحد،؛ لأنه يدعو إلى سلطة الثقافة والعقل لا ثقافة السلطة.. ولأنه ينتمي باختياره الحر انتماءاً شاملاً  إلى شعبه بأسره والبشرية جمعاء، وليس إلى شرذمة سياسية أو طائفية ...؛ طالما يدفع الثمن باهظاً، بل ويعاني الغربة حتى وسط جمهرة المثقفين! حتى يبدو كالفارس النبيل دون كيخوتيه (طبعاً بالمفهوم الحسن،لا المبتذل)! وغالباً ما يتضاعف ظلمه متهمين إيّاه بضآلة دوره وقلة كتبه المطبوعة أو نتاجاته المنشورة متناسين: " ألقاه في اليمّ مكتوفاً وقال له إيّاك إيّاك أن تبتلّ بالماء"!
  وأنا الآن بصدد اعداد ورقة داعية إلى تأسيس منظمة إنسانية ( كالمنظمات المدافعة عن حقوق الأقليات والمرأة) تسعى إلى الدفاع عن وجود المبدعين المستقلين المهددين بالتطهير ، وضمان حقوقهم كمواطنين ومبدعين في الوقت نفسه، بوصفهم (أقلية) يُمارَس التمييز والإضطهاد والحرمان ضدهم بشتى الوسائل والأساليب؛ بحيث يوشكون على الإنقراض( وهم ملح الأرض، بحق وحقيقة) لاسيّما في البلدان المتشدقة بتهاويل الحرية والديمقراطية كالعراق! ولابأس أن تكون هناك(و لو) جمعية رفق بالمبدعين المستقلين، على شاكلة جمعيات الرفق بالحيوان! لأن الساسة وأزلامهم من المثقفين الذيليين يعدون المبدع المستقل حجر عثرة في طريقهم ، بل زائدة دودية ليس إلاّ، ويعاملونه باستعلاء واستخفاف ، في العراق بالأخص؛ لمجرد انه بلامنصب سلطوي ولاحظوة ولامال!

* حديثك ذو شجون كثيرة جداً، فلنختتمه برؤيتك للمشهد الثقافي الكردستاني المعاصر.
- بعبارة مقتضبة جداً: لاتغرنّكم المظاهر البراقة الخلّبية؛ فالسلبيات أكثر من الإيجابيّات في مشهدنا الثقافي الكردستاني المعاصر؛ إذا أخذنا الإمكانات الهائلة المتاحة(المادية والمعنوية) في الحسبان، منذ مطلع تسعينات القرن الماضي وحتى الآن(18سنة) وبعيداً عن المقارنة الديماغوغية مع الوضع الثقافي في العراق بعد سقوط الصنم وحتى الآن؛ أمّا تعليلي فهو كما يلي:
  للأسف الشديد؛ تبيّن لي أن أغلب المثقفين الكرد من النمطين التقليدي الذيلي والتوفيقي المتذبذب الطفيليين في انتظار التحرر والتغيير المنشودين على أيدي الساسة، في حين يؤمن المثقف المستقبلي الداعي لسلطة الثقافة " أن الذي لايستطيع أن يحرّر نفسَه بنفسه؛ لن يستطيع سواه أن يحرّره " على حدّ تعبير المناضل والمفكّر باولو فرايري، وبالطبع أن هذا الموقف يكاد أن ينسحب أحياناً على الشعب الكردي المقهور نفسه، متمثلاً بحركة تحرره القومي! فلجهل هؤلاء المثقفين بأدوار إستحالات الدول والإمبراطوريّات العظمى، ناهيكم عن تواريخ نهوض وسقوط القوى الفاشية في العالم، خلال القرن العشرين، بالإضافة إلى عدم إدراكهم لـ (الحتميّة التاريخية) ؛ ظلّوا مستسلمين للأمر الواقع، بل ماكانوا يتوقّعون المستجدّات والمتغيّرات السياسية، التي هبّت وراحت تعصف بالنظام العفلقي منذ أواخر ثمانينات القرن الماضي؛ ولذلك فقد بوغتوا  بالأحداث المتسارعة، وخاصة إنتفاضة 1991 العظمى؛ فإذا بهم يفتقرون إلى أيّة مشاريع أو أجندة ثقافيّة عقب الإنتفاضة، بل سارعوا إلى تسليم مصيرهم بأيدي الساسة المتناحرين المتنازعين على السلطة والمغانم والنعائم الدسمة،  والذين سارعوا إلى تجنيد الأقلام المطواعة؛ لتأجيج أتون الإحتراب البغيض الذي دمّر المستقبل الرائع المتوقّع للكرد وكردستان، بل وللعراق أجمع،  وعليه؛ لاعجب إنْ ظلّت حركة الثقافية الكرديّة متخلفة تسير سيراً أفقيّاً وبطيئاً، يسودها التكرار والإجترار عموماً، ناهيكم عن الفوضى والفساد والإهدارات الهائلة اللامسؤولة من أموال الشعب المستضعف! أجل؛ لم تظهر أيّة حركة ثقافيّة جذرية متماسكة تضمّ المثقفين كمجموعة ضاغطة مرسية لأسس (الثقافة البديلة) ذات البنى والمسارات القومية التقدمية، والكفيلة بالتعبير المنشود عن كياننا القومي في خضم التسارع الثقافي العالمي. و حيث يتفاقم الفساد الثقافي، أي فساد دماغ المجتمع؛ كيف سيكون الحال مع جوارحه الأخرى؟!
إلهي لكم أصاب الكاتب مارون عبود؛ حين كتب قبل عقود متسائلاً :
" يقولون لك:
- أكتبْ
- وماذا تريدون أن أكتب؟ ومن يقيم وزناً لما نكتب؟! (......) خصوصاً في هذا الزمن، الذي انهارت فيه المُثل العليا وقلّ الحياء! ألا يسمّون الكذّاب داهية، والدجّال سياسياً، والوصوليّ ألمعيّاً، والإنتهازيّ عبقريّاً، والأنوف الأبيّ حماراً لايعرف يعيش!" ؟! *
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* هذا هو النص الكامل للحوار، الذي نشرت جريدة ( طريق الشعب) الغرّاء في 8نيسان/2009 قرابة ثلثيه ؛ لربّما بذريعة طوله ، أو لحسابات سياسية ، وربما لكلا السببين ، وقد تكون معذورة في الحالين ، ولكن على حساب تغييب جانب كبير من تميّزي ؛ حيث حذفت آراء وأفكار جوهرية مابرحت أناضل من أجلها منذ أكثر من أربعين عاماً ؛ وعليه وجب هذا التنويه (ج.ز) 




جلال زنكَابادي:

" عزاؤنا الوحيد هو وقفتنا في وجه الأكاذيب الكبرى"


حوار أجراه الشعراء:
احمد عبدالحسين ، ابراهيم اليوسف و ياسين عدنان



  { جلال زنكَابادي أبرز أدباء الظل في العراق  باللغتين العربيّة والكرديّة، وهو معروف بزهده في الأضواء والشهرة الزائفة، التي يتهالك عليها أغلب الأدباء والفنانين؛ فهو بطبعه عازف وراغب عن التصريحات والمانيفستوات والمقابلات والحوارات ، إنّما يعوّل على النصوص الإبداعية المنجزة  كمحك ، من دون شفاعة التبجحّات التي يحسبها ورقة التين،  التي يغطّي بها العجزة العنّينون عورات خوائهم الإبداعي وضحالته. وعلى مدى أكثر من أربعين عاماً من النشر، لم يستجب غير أربع مرات لمقابلة أو حوار، أمّا هذا الحوار فقد ولّفه بنفسه باتساقية وانسيابية من  فقرات  ثلاثة حوارات شفاهية وتحريرية خلال السنوات(1994-2001 ) أجراها معه : الشاعر العراقي احمد عبدالحسين(نداء الرافدين/ دمشق 16 أيلول/1994) و الشاعر الكردي السوري ابراهيم اليوسف( في 1999 /  غير منشور) و الشاعر المغربي  ياسين عدنان( في2001 بأربيل، خلال مئويّة الجواهري/مقتطفات منه في  مجلة الصدى  الخليجيّة ع 278 في 25تموز2004) }
*******
  بيأس كبير يتحدّث الشاعر جلال زنكَابادي عن مصير العالم، مردداً جملة أثيرة  للشاعر الألماني هانس ماغنوس انسنزبرغر" لاأجد ما أمتدحه على كوكبي بصوت جهير" لكنّما حين تسأله عن الشعر؛ تشرق عيناه، فهو لديه الحقيقة الوحيدة المتبقيّة في زمن الوهم، ولكن الشعر يحتاج إلى شعراء أصيلين/ حقيقيين..وهو يرى أغلب المشتغلين به الآن في البلدان العربية مجرّد بؤساء تافهين لايعوّل عليهم إبداعيّاً! وفي هذا الحوار ستصدمكم آراؤه الحادّة اللاذعة.

* قيل لي  إنك تتهرّب دائماً من المقابلات والحوارات؛ فصمّمت على استفزازك واستنطاقك بكلّ ما أوتيت من خبرة ومهارة وحيل صحافية! خصوصاً وأنت من أدباء الظل الصموتين...
-  أزعم وأفتخر بكوني أبرز أدباء الظل في العراق؛ لأسباب ذاتيّة وموضوعيّة لامجال لتفصيلها الآن، وما أشبه أدباء الظل بالمياه الجوفية المهمة رغم كونها لامرئيّة ظاهريّاً !..(أظن أن الدكتور لويس عوض قد توصّل إلى هذا الفهم قبلي) وليس التهرّب بالوصف الدقيق لعزوفي ورغبتي عن التبجحّات وزهدي في الأضواء؛ لكوني أعوّل على النصوص المنجزة فعلاً، لا على الثرثرة؛ فالنص الإبداعي الجيّد المغاير والمتجاوز للسائد ينطوي في حدّ  ذاته على مانيفستوه، أمّا الحملات الدعائيّة، التي يلجأ إليها العقيمون والخاوون بالضرورة، منافسين بذلك  فناني وفنانات الغناء والرقص والسينما والتلفزيون بلهاثهم وراء النجوميّة فهي معيبة جدّاً في نظري...ثم إن همّ مندوبيّ الأجهزة السمعية والمقروءة والمرئية هو ملء الفراغات بما يناسبها  ولايناسبها ....وأغلبهم جهلة براغماتيون يستهلون لقاءاتهم بالمجاملة النفاقية؛ حتى يستحلبوا طرائدهم ببضعة أسئلة كليشيّة، ثمّ يغادرون على عجل بلااكتراث وبلادة حس بعد نيل أوطارهم، ومن ثمّ يتصرفون بالمقابلة أو الحوار على هواهم أو هوى عرّابيهم ، وقد لاينشرونه أصلاً؛ وهو الأمر الذي أحسبه امتهاناً لكرامة المبدعين الحقيقيين، الذين يجب ألاّ يستجيبوا لكلّ من هبّ ودب... 

* كيف تشخّص موقف الشاعر في الوجود؟
- لابدّ للشاعر خصوصاً والمثقف عموماً أن يلتزم ذاتيّاً وأخلاقيّاً بصورة ستراتيجية خارج مدار وأطر أيّ ايديولوجيا ضيّقة؛ فـ " أولئك الذين يقرعون الأجراس، لايساهمون في موكب الإحتفالات!" حسب قول روسو، ثمّ انه إذا ما رأى شليكَل " ان المؤرّخ نبيّ يتطلّع إلى الماضي" ؛ فإن الأديب / الفنان المبدع يتطلّع حتماً إلى المستقبل، ويقرأ عبره الحاضر، بالعكس من السياسي، الذي يلتصق غالباً - بطبيعة مقاصده - بالراهن المحدود ً؛ مهما كان متطلّعاً إلى المستقبل، وهنا تكمن علّة إشكاليّة العلاقة المتوترة والمتأزمة بينهما. ويقيناً يرتكب الأدباء والفنانون أكبر الكبائر، بل الخيانة العظمى؛ إذا ما ركّزوا على تمجيد مناقب عصورهم، وتجاهلوا مثالبه، مثلما حدث حين تفاقم النفاق الثقافي في ظل الأنظمة الشيوعية والإشتراكية، التي إستمرأت عسل النفاق السّام، الذي ساهم أكبر الإسهام في حفر قبورها ودق المسامير في نعوشها...! وعليه أرى الصدق الصدق أولاً وأخيراً هو من صلب واجب الأدباء والفنانين، الذين ينبغي أن يقشطوا قشرة القداسة بشجاعة عن كلّ ما هو زائف؛ فـ " عارٌ على منْ يغنّي وروما تحترق!" كما صرخ لامارتين ذات موقف، وهنا تتجلّى أيضاً مصداقيّة " وظيفة الأدب تكون دوماً تآمريّة" على حد تشخيص ماريو باركَاس يوسا، أي عموماً ضد التيّار  دائماً وأبداً!

* تكتب الشعر باللغتين الكردية والعربية و تترجم عيونه من بضع لغات: الفارسية ، الإنكَليزية، الإسبانية والتركية الآذرية....وتقرؤه ببضع لغات أخرى؛ فهل يمكن حسبان هذا التعدد اللغوي ذا أهمية وتأثير في إثراء تجربتك الإبداعية؟
- بالتأكيد؛ فلايمكن لشاعر لايقرأ بسوى لغة واحدة أن يبلغ المدارج السامية للكينونة الشعرية؛ ولذا حين يحظى بعض قصائدي وترجماتي الشعرية  بالنشر؛ يخالني أكثر الشعراء المحدوديّ الثقافة كما لو انني قادم من كوكب آخر! أو يستهزئون ويستخفون بي، لاسيما بلغتي الكردية الأدبية شبه الموحّدة،النادرة المثيل في المشهد الثقافي الكردي المعاصر؛ طبعاً لجهلهم المدقع أو لحسدهم الدفين أو لكليهما! بل لم يحظ شعري لحد الآن بغير بضع مقاربات أوليّة (بالعربية حصراً) من لدن بعض الكتاب ذوي الضمائر الحيّة. وطبعاً لاتهمني مواقف القاصرين والحسّاد؛ لكوني أنا نفسي ناقداً أيضاً وأعرف نفسي جيداً، بل انني ناقد قاس لنفسي، وهذا يعني كوني ( سائقاً وفيترجياً ) في الوقت نفسه ! ولكن النقد (بصفته تفسيراً وتقويماً وتقييماً وتوجيهاً) ضروريّ لمعشر القرّاء وربّما حتى للشعراء (الناشئين منهم بالأخص)

* لكن هل يكفي الشاعر أن يقرأ بأكثر من لغة لتغتني تجربته؟
-  وهل يستوي الذين يقرؤون والذين لايقرؤون؟!! لابدّ للشاعر من أن يقرأ ليوسّع مداركه و معارفه، لكن أغلب شعرائنا كسالى لايقرؤون ، أو ليسوا أذكياء بحيث يمكنهم أن يستوعبوا ويتمثّلوا مايقرؤونه! فيتخلّفون في ماراثون المعرفة..إن الشاعر الذي لايقرأ ولايستثمر أقصى المعارف؛ يستند إلى الفراغ، فيظل خاوي الذهن والروح، أي مفتقراً إلى كلتا الرؤية والرؤيا النافذتين المتواشجتين والضروريتين لأيّ مشروع شعري حقيقي يتجاوز المألوف السائد. كيف يمكن لأديب يستمريء سوء التغذية الثقافية ومصاب بفقر دم معرفي أن يبتكر ويبدع ما يتجاوز المنجز قبله؟! فمثلاً تمعّن في قويميسات أغلب شعراء المشهد الراهن؛ لتدرك مدى فقرهم اللغوي من قبل ومن بعد..ناهيك عن رؤاهم الضيقة والضئيلة. وهنا أزعم بأن معجمي الشعري(الكردي والعربي) مكتنز وثري، بل يتضمّن إضافات جديدة بالمئات ؛ تبعاً لقراءاتي و رحابة وعمق رؤيتي ورؤياي، أي عالمي الشعري، فضلاً عن انني أعامل حتى الحرف الواحد( لا اللفظة الواحدة فحسب) ككائن حي عند الكتابة والترجمة كلتيهما، وربما أراجع أحياناً بضعة قواميس(ببضع لغات) نشداناً لضبط  دقة معنى أو دلالة لفظة في سياق جملة أو عبارة.

* وماذا عن مشروعك أنت، ما هي مكوّناته وما هي عناصر تشكيل رؤياك الشعريّة؟
- الشعر لديّ قول أقصى مايمكن بأقلّ الألفاظ  رهن حالة الشطح في الغالب، ورؤياي بالإضافة إلى تجاربي الحياتية ، نابعة من مجمل معطيات المعارف والعلوم الإنسانية من آداب وفنون وأديان وفلسفات  حتى السحر والشعوذة..ومردها هو تثقيفي الذاتي الموسوعي الحر منذ يفاعتي، بالإضافة إلى التربية الصوفية التي تلقيتها مبكراً على يد  والدي المريد الصوفي،الذي كان شاعراً شعبياً، وراوياً مستظهراً للشاهنامة الكردية وملاحم العشق والبطولة وألف ليلة وليلة.....، بل وقد سمّاني تيمّناً بالشاعر والمتصوف العظيم مولانا جلال الدين، كما بيّن لي ذلك هو و ملاّ  صديق له(جار لنا ولد له إبن في يوم ميلادي نفسه). فإذا كان بعض الشعراء أمثال: البياتي، صلاح عبدالصبور وأدونيس متأثرين بالأدب الصوفي؛ فالعبد الفقير إليه  ذو منبت ومسلك صوفيين أصلاً، طبعاً بعيداً عن التمظهرات الدينية الزائفة....   

* إذنْ يمكن اعتبار التراث الصوفي أحد أبرز مرجعيّات تكوينك الشعري، أليس كذلك؟
- بلى، بكل تأكيد؛ فقد إنكببت على دراسة التراثين الصوفيين العربي والفارسي وكذلك الكردي والتركي والهندي والغربي.وكلّما تعمّقت في سبر أغوار النصوص الصوفية؛ إكتشفت قوتها وقدرتها على التعالي على شروطها الزمنية. إن تراث المتصوفة العرب والفرس والكرد والترك والهنادكة... ينتمي بجدارة إلى المستقبل؛ فهو معاصر أكثر ممّا يكتبه شعراؤنا الآن! بل انه يتحداهم بقدرته على اختراق المستقبل واستشرافه برؤيا روحية عالية؛ حيث يمكنك أن تجد فيه طروحات التآخي الأممية والطروحات السورريالية والباراسايكولوجية والحداثوية؛ فقد سبق الشاعر الهندي بيدل دهلوي(1644-1720) شعراء الغرب أجمع بريادته الحداثية، بل وتطالعنا حتى الطروحات البنيوية والتفكيكية والتأويلية لدى شعراء الحروفيّة ووحدة الوجود؛ فإبن عربي في رأيي يعد رائد البنيويين والتفكيكيين والتأويليين حتى في تفكيك و تأويل الحرف الواحد! وهنا أقول للمتفرنجين اللاهثين وراء الموضات العابرة بأن بارت ودريدا وفوكو وكريستيفا وهابرماس وغيرهم....ليسوا أكثر من تلاميذ بسطاء- وبعد قرون-  بالمقارنة مع إبن عربي والحروفيين الشرقيين؛ فليتك اطلعت بالفارسية على تفكيك وتأويل الشاعر ناصر خسرو للفظة الجلالة(الله) فقط ؛ لتدرك مصداقية رأيي، الذي قد يبدو غريباً صادماً لأغلب مثقفينا ؛ ولذا لابدّ من القول: ليس في مقدور أيّ ناقد مفتقر إلى كلتا الثقافتين الكونيتين: التراثية(لاسيما الصوفية) والحداثية المعاصرة أن يتصدّى لدراسة قصائدي ويقيّمها بإنصاف، ناهيك عن قدرته على قراءتها أصلاً؛ لأن شعري ليس (حايط نصيّص)!  وهنا بودّي التأكيد على كون أغلب المثقفين العرب حتى الطليعيين منهم عالقاً في أوحال(المركزيّة الأوربية) يسارع في التهليل والترويج لكل بدعة وموضة فقاعيّة عابرة ، في زمن انحطاط الغرب وانحداره الأخلاقي المريع نحو الهاوية، في حين يجهل أو يتجاهل عظمة تراثه الإسلامي، الذي كرّسه الغرب لنهضته وتطوّره وتقدمه لبضعة قرون!

* لنعد من اللحظة الصوفية المتعالية على شرطها الزمني إلى لحظتنا الراهنة، التي تبدو في خصام تام معها كما في (شظايا/ 1967-1969) حيث نعتت الزمن بالزنيم وصحفه بالبغايا وأشعاره بالرجيمة..واستشرفت مجيء أشباح المستقبل؛ فما سر تشاؤمك ونهليستيتك؟
- ليس هذا بتشاؤم، إنّما هو تشخيص شامل ومعمّق لراهن الجذام الحضاري وقرعاً لناقوس الخطر المحدق بمستقبل كوكبنا ببشره ومخلوقاته وأجوائه....في زمن انحراف العلم عن أهدافه النبيلة، وزمن الرعب النووي، وزمن الدمار البيئي والايدز والإدمان على المخدرات والإنفلات الجنسي وزمن الساسة الحرامية بلاحدود والإرهاب العشوائي...إنه زمن تهيمن عليه ثقافة القمامة الإستهلاكية المدغدغة للغرائز الدونية وقوننة ودسترة الشذوذ وحيونة الجنس ، أما روح الإنسان ووجدانه والقيم النبيلة فتكاد تعد من الكماليّات في عالمنا المتعفن المنزلق إلى الهاوية العظمى..

* حتى عند الشعراء؟
- كلاّ، سيظل الشعراء الحقيقيون رغم ندرتهم ( لا شعارير حقول الدواجن السياسية) في المواجهة والمجابهة، وطالما أردد مع الشاعر ميروسلاف هولوب " عزاؤنا الوحيد هو وقفتنا في وجه الأكاذيب الكبرى" و "إن صوتاً واحداً شجاعاً أكثريّة" كما أدرك الإمام علي (ع)

* ومن أين يستمدّون القوّة لخوض هذه الحرب الخطيرة المصيرية؟
- من قوّة الشعر الحقيقيّ الكامنة في الهم الوجودي والرؤية الكونية؛ فالشاعر غير الموهوب وغير المثقف وغير المتمرّس، والمفتقر إلى الرؤية والرؤيا المتواشجتين مع الجسارة الإنتحاريّة لايُرجى منه إلاّ إبداع الفضلات! في هذا الزمن الذي لم يعد سوى الشعر الحقيقي سلاح البشرية لمقاومة التصحّر الذي يجتاح روح الإنسان. وليس الشعر حكراً على الشعراء؛ وإنّما هناك أحياناً أروع الشعر في الفنون الأدبية السردية، كما في الروايات والأقاصيص القصيرة جداً.

* حسناً..كيف ترى المشهد الشعري الكردي المعاصر؟
- ثمة حقيقة ساطعة لاتخفى على أحد، ألا وهي أن كردستان ممزقة الأوصال منذ انهيار الإمبراطورية الميدية، ومازالت مجزأة، وهذا الوضع ينسحب على أمتنا الكردية المغلوبة على أمرها، والمغرّبة عن ذاتها، والمهمّشة إلى حد بعيد، وهذا يعني ان الكرد يعانون بشدة من غياب الوحدة الثقافية، اللغة والأبجدية الموحدتين بالأخص، كما الحال في اللغة البنجابية، وهذا يعني التبعثر والشتات حتى في مشهد شعرنا المعاصر، الذي يتشعّب إلى مشاهد عدّة، متباينة ومتفاوتة المستويات تبعاً لخصوصية أوضاع أجزاء كردستان اللامتحدة..ويمكنني الجزم ان الإنجاز الشعري في كردستان العراق، خلال القرن العشرين، يمثّل الطليعة الرائدة عموماً في مشهد شعرنا الكردي؛ لأسباب ذاتيّة وموضوعيّة لامجال لتفصيلها الآن. ولكننا نفتقر إلى التيّارات الشعريّة المتبلورة ، الواضحة السّماتً، وليس عندنا شاعر مجيد في كلّ أشعاره، إنّما ثمة قصائد جيّدة هنا وهناك؛ ومرد هذا غياب الشعراء المفكرين وذوي القدرات الفنية، الدرامية خاصة، ويتجلى هذا في طغيان (النزعة الغنائية) على خطابنا الشعري..فثمة نجاح ملحوظ، وربما ساحق في إنجاز المزيد من القصائد القصيرة وشبه المتوسّطة، جنباً إلى جنب الإخفاق الواضح في مضمار المطوّلات الشعرية ماعدا إستثناءات نادرة جداً. إن الترهّل التشكيلي الفضفاض وانعدام الوحدة العضوية لعناصر القصائد وأجوائها يهيمنان على النصوص المتوسطة والطويلة، إضافة إلى شيوع القاموس الرعوي/ الزراعي في اللغة الشعرية، ناهيكم عن الإنفلات اللغوي، الذي يستمرئه بعض الشعارير الشغوفين بالفبركة المجانية والألعاب اللفظية البهلوانية، المفتقرة إلى أيّ خلفية معرفية ورؤية فلسفية، وأخيراً وليس آخراً التقاعس في الكفاح من أجل اللغة الأدبيّة القوميّة الموحّدة؛ والعلّة تكمن في غياب شعراء قوميين واعين مثقفين متمثلين للتراث البشري والمعطيات الثقافية الحديثة وذوي رؤيا مستقبلية. للأسف الشديد؛ لم يبدع الشعراء الكرد قصائد تداني حجم الفجائع والأهوال البشرية والتراجيديا الإستثنائية لشعبنا المستضعف المقهور؛ مقاربة بالمعطى التاريخي الراهن الكفيل بإنجاز نصوص تجاري وتضاهي قمم آداب أمريكا اللاتينية وافريقيا وأوربا..ومع كل ذلك ثمة قصائد إستثنائية يمكن الأعتزاز بمستواها على صعيد الشعر العالمي.

* وماذا يكمن وراء نزوعك نحو المطوّلات الشعرية والملحمية مثل: (تالبحر لأشطحنّ) و( هكذا شطح الكائن مستقبلئذ)؟
- لقد أنجزت المئات من النصوص القصيرة والمتوسطة وشبه المتوسطة، ونشرت العشرات منها، ومنها مالا يتجاوز جملة أو عبارة واحدة، بل وبضع علامات ترقيم! وأحسبني منشئاً لقصائد حرة، لكل واحدة منها كيانها الخاص. أمّا المطوّلات الشعرية وذات الطابع الملحمي؛ فهي بمثابة فضاء حرّ مفتوح على آفاق تجنيس جديد في كوكبنا السجين /السجن! وفي مثل هكذا فضاء رحيب يمكن للشاعر استحضار وتجسيد ماتمور به روحه التوّاقة إلى المطلق ورؤياه الشاملة/ العميقة المكرّسة للتعبير عن همومه الوجودية القصوى(الذاتية والجمعيّة القومية والكونية) عبر بوليفونيّة (تعددية الأصوات) والبنى الفنية ذات الديناميكية الدراميّة، وإن ما يشحن ويشحذ نزوعي هذا هو إدماني الشره على قراءة شتى الملاحم البشرية والنصوص الدرامية، ناهيك عن كوني إبن اللغة الكردية، التي تزخر بما يناهز مائتي ملحمة شعرية! وربّما كانت  ملحمتي المضادة(هكذا شطح الكائن مستقبلئذ) وبضع أخوات لها(قبلها وبعدها لم تر النور بعد)  بديلة لروايات شبه شعرية طمحت إلى كتابتها منذ عقود. 

* كيف يمكنك التوفيق بين ثنائيّة الشعر والسياسة؟
- لايعني الإلتزام الحقيقي في نظري سوى الإلتزام الفني الصميمي، الذي ينطوي على الإلتزام الإنساني في جوهره..لقد تلمّست عبر قراءاتي لآداب الأمم، البون الشاسع بين الشاعر البوق(الدعائي) والعقائدي الحميمي... ومن هنا ليست القصيدة عندي أنشودة مدرسية، أو لافتة شعاريّة، أو هتافات، أو مقالة، أو وصفة طبيّة؛ حسبما يبتغيها الساسة والمتثاقفون المتسيّسون، وجلّهم أشباه جهلة ومتطفّلون على عالم الإبداع، بل وحاقدون على المبدعين الأباة... ومع ذلك قلّما تخلو إحدى قصائدي من الهم السياسي؛ منذ البداية ، كما لو أنني ولدت لأناهض وأقارع النزعات الشوفينية والفاشية والدكتاتورية؛ بل وقد وظفت لعبة (المجاز والحقيقة) حتى في قصائد الحب، التي يمكن أن تُقرأ بطريقة الحفر الاركيولوجي، وكما لوأنها بوستكارات زئبقيّة يابانية؛ تتخذ فيها الصور وضعيات مختلفة؛ بمجرد تحريكها.  

* حسناً ألمْ تصدر أيّ مانيفيستو يجلو منظورك الإبداعي هذا وشعريّتك المنشودة؟
- قطعاً؛ فكل نص راق برأيي ينطوي على مانيفستوه الخاص، فلماذا يؤسر ويكبّل المبدع نفسه مسبّقاً في قفص(لزوم مالايُلزَم) ؟ جليّ أن التنظير والنقد يسعيان دوماً إلى الإحاطة بالمنجز الإبداعي وحصره في أنساق محددة، أيّ تدجينه في نهاية المطاف ، بينما يتمرّد النص الإبداعي دوماً على اللجم والتدجين، وبعبارة أخرى غالباً ما يتكرّس التنظير والنقد لتسييد الثوابت، بينما ينزع الإبداع إلى التحوّل، فلا دور للوصفات الشعرية(الطبّية) الجاهزة في الإبداع، فالإبداع لايُستنسخ ولايتكرر، حتى لدى المبدع الواحد نفسه، ولا عبرة بتاتاًَ في التبجحات التنظيرية، وإنّما في الإنجاز الفعلي، بل ان أغلب المبدعين المنظرين يعانون من الشيزوفرينيا بين ماينشدونه تنظيرياً وما يحققونه أثناء الممارسة الفعلية؛ ماداموا يضعون العربة أمام الحصان، ناهيك عن تلاص مقومات تنظيراتهم الإنتقائيّة من أفضل تنظيرات الآخرين! صدّقني أن ّكلينا يمكننا تدبيج أرقى مانيفيستو خلال سويعات ، أمّا تنفيذه لاحقاً فقد لايرقى إلى عشره في أفضل الأحوال. وهذا لايعني سدى التنظير ولاجدواه؛ فطالما وجدتني في  نصوصي منفذاً مسبّقاً لأفضل تنظيرات الآخرين هنا وهناك؛ ممّا زادني ذلك ثقة بمساري ، فمثلاً كنت قد أنجزت بضعة (نصوص مفتوحة) منذ أواخر 1969 وأوائل1970 أي قبل بضع سنين وربّما قبل عقد من ظهور التنظيرات لـ (النص المفتوح) هنا وهناك، ولي البرهان على ذلك في نصي المنشور في مجلة (مواقف/ 1971) ونصوص أخرى في مجلة (الطريق) وغيرها. وهذا ما حصل لي أيضاً  مع تنظيرات الباحث المبدع كمال أبو ديب في طروحات التشظي و(جماليّات التجاور) وكذا الحال مع (قصيدة الومضة) فقد كتبت خلال السنوات(1966-1969) أكثر من 150قصيدة ومضوية؛ مستمدّاً الجرأة من مجلة(شعر) اللبنانية، ومتأثراً بترجماتها ونصوص شعرائها، وهي التي تضمها مجموعتي المخطوطة (شظايا من نفير البحر) والتي نشرت منها العشرات في النشرات الجدارية والصحف والمجلات في الفترة نفسها وفي مطلع سبعينات القرن الماضي، ولكن بدون تنظيرات ومانيفستوات ولا إدعاء بالريادة، التي يلهث وراءها آخرون.....لقد أصاب غويته العظيم في قوله " الحياة شجرة خضراء والنظريّة رماديّة.." في مسرحيته الشهيرة (فاوست)    

* وهل ثمة صدى لنصوصك الشعرية في كردستان والعراق...؟
- لاأجافي الواقع والحقيقة إنْ قلت بأن المبدعين الحقيقيين الأصلاء في كردستان والعراق وربّما في عموم المعمورة، مغبونون ومغدورون جداً، وهنا أردد بكل أسى قول أوكتافيو باث: " إنّ شعباً بلاشعر هو شعب بلاروح، وأمّة بلا نقد هي أمّة عمياء" والحق يجب أن يقال، نحن أمّة بلا نقد؛ وإلاّ فإنّ مجمل ثقافتنا الراهنة منحول وزائف بامتياز؛ فلتدرك معي مدى بؤسنا وضياعنا إنطلاقاً من مقولة الشاعر أوكَستينو نيتو " ما نحن إلاّ ثقافتنا" !
   إن ما سلف لايعني أن ليس ثمة صدى لنصوصي، لكنه نادر وخفيض جداً؛ والسبب الرئيس هو الإفتقاد إلى الناقد المثقف الموسوعي (بثقافة تراثية ومعاصرة) ليقدر على التصدّي لمثلها، ناهيك عما يطغى على  أغلب المعنيين في المضمار الثقافي  من محاباة ومحسوبية ومنسوبية و استكتابات ومقايضات " صفّق لي؛ أصفق لك" بل حتى  الحسد والغيرة تجاه المبدع الحقيقي من قبل أقرب المقرّبين إليه أحياناً..! بالإضافة إلى انني لم أكن ذات يوم شعروراً روبوتاً (مدّاحاً/ نبّاحاً) لحزب أو كشك سياسي؛ حتى  يقوم بتسويق نتاجاتي، ويفبرك لي شخصيّة كاريزميّة، حسب لعبة المقايضة. فلو كنت من هكذا نمط ؛ لبوّئوني أعلى المناصب والمقامات الثقافية، ونشروا كل سطوري قبل أن يجف حبرها، وحزت على أعلى الشهادات، وانهالت عليّ  الدولارات والإيفادات إلى الخارج والجوائز والمسدسات والسكرتيرات والتقاريظ  والأطاريح والشهادات الفخرية، مثلما كان الحال مع شعارير شيوعيين، ويعربيين عفالقة وغيرهم، وعفلقزادات كرد (بعضهم حاضرون الآن في مهرجان الجواهري هذا!) كانوا يصدحون بمعلقاتهم (في هذه القاعات نفسها) مع أهازيج ( هلهولة للبعث الصامد) و( بالروح بالدم نفديك يا صدّام) ولي في مهرجان شعري متزامن مع إغتيال حلبجه أسطع برهان ودليل( لديّ وثائقه الكاملة).وهكذا نرى كلّ حزب بمهرّجيهم فرحون... صدّقني لم يجرؤ على الكتابة عن شعري طوال ربع قرن  سوى الكاتب القدير يوسف الحيدري( وقد نشروا كتاباً له بشرط حذف الفصل الخاص بشعري)! وإذا بالذين كانوا قبل الإنتفاضة يرفعون عني تقارير (عدم الولاء للحزب والثورة) و( مترجم أدب المخريبن) تراهم لاحقاً  يبثون الدعاية ضدي في مشهد مابعد الإنتفاضة  بصفتي منشقاً يحن إلى العصر العفلقي الذهبيّ! أيّ يرمونني بأدوائهم وينسلّون كالشعرة من العجين ؛ كما لو أن الأوباش العفالقة وجحوشهم من الكرد قد نسفوا منازلهم (وأكثرها من هبات السلطات العفلقية) وليس منزلي ومنزل شقيقي برهان وووووو......فمثلاً راحوا يشينونني وينعتونني بـ (الحاقد الجاهل بالثقافة واللغتين العربيّة والكرديّة) و(الطائر المجذوم العاشق لشجرة الزقنبوت) و (المريض المعقّد الذي يجب حجزه في مستشفى الأمراض العقليّة) و (العروبي ) و(مريد علي الكيمياوي) بالإضافة إلى الوعيد والتهديد بالقتل في أوائل تسعينات القرن الماضي؛ إثر كشفي لبضع انتحالات أدبيّة واختلاسات وسرقات مالية، والأنكى من ذلك أن وزير ثقافة حكومة هولير قد بلّغ أزلامه في خريف 1996 بفرمان حظر نشر مواضيعي في صحف ومجلات وزارته وحزبه ( والتي كان نفسه صاحب إمتياز ورئيس تحرير قرابة العشرين منها) بتهمة سوبرسوريالية؛ منسّباً إليّ زوراً وبهتاناً مقالة لحسن العلوي ضد الأخ مسعود بارزاني في جريدته (الشمس) كانت جريدة (الإتحاد) قد أعادت نشرها إبّان الإحتراب الأخوي!  لكن الكتاب المعروفين سرو قادر وفيصل الدبّاغ وآزاد عبدالواحد و كاروان عبدالله ورزكَار نوري شاويس قد خرقوا الحظر القرقوشي (مشكورين) بعد قرابة السنة؛ فأُسقِط في يد  داعية التسامح وراعي المبدعين! و" الذي يدري؛ يدري..والذي لايدري؛ قبضة عدس"! أجل؛ فقد دفعت الثمن باهظاً جداً وما زلت ، وربّما سأظل؛ لإشرافي اللغوي والثقافي على جريدة(وطن الشمس) لحزب العمّال الكردستاني، قرابة السنة، ولتأييدي لتأسيس البرلمان الكردي في أوربأ، بينما عيّن جاسوس عميل مندس في إعلام PKK (كان يدبج المقالات النارية ضد البارتي) مديراً لإذاعة كَولان البارتية مباشرة بعد ضرب وإزالة مقرات PKK في أربيل، على سبيل المثال، لا الحصر!!
   فلاعجب إذنْ إنْ كنت أردد مع نفسي دائماً هذين البيتين المنسوبين لابن الخازن الدينوري:
" مَنْ يَستقمْ؛ يُحرَمْ مناهُ ومنْ يزُغْ
  يُـختَـصْ بالإســعافِ والتـمكــــينِ
 أُنظـرْ إلى(الألـف) اسـتقامَ فـفاتـهُ
عُجْـمٌ وفـازَ به إعـوجـاجُ النّـــونِ"
لكنّما هيهات وألف هيهات؛ فالتاريخ لايرحم مجرمي الثقافة وأقزامها المتعملقين، وإليك أيضاً هذه الأبيات البليغة المنسوبة إلى الحلاّج الشهيد أحد شيوخنا الأجلاّء:
 "فلاتحسدِ الكلبَ أكلَ العظامِ
   فعند الخــــــراءةِ لاترحـمُهْ
  وعمّا قليـلٍ تـرى في إسـتِهِ
  جُـروحاً جـناها علـيه فـَمُهْ
  إذا ما أهـانَ امـرؤُ نـفـــسَهُ
  فلاأكــرَمَ اللهُ مَنْ يُـكْـرِمُـــهْ "
ومن ثمّ أجد عزائي في قول إبن الرومي:
 " فلْيطرْ معشرٌ ويَعْلَوا فإنّي
    لاأراهم إلاّ بأســـــفل قاب
    لاأعـدّ العلـوَّ منهم عـلوّاً
  بل طفوّاً  يمين غير كِذاب"
    أجل يا صديقي  لقد استحالت الجملة الإنجيليّة " ماقيمة أن تربح العالم وتخسر نفسك؟" ملحاً لاينضب يقيني من الفساد على جميع الصّعد ، منذ قراءتي للكتاب المقدس في 1963 وأنا تلميذ في السادس الإبتدائي.

* شكراً على هذه الأبيات الرائعة المعبّرة التي أسمعها لأوّل مرّة...حسناً كيف أصبح حالك بعد انتفاضة 1991كأديب وصحافي ناشط  في المجال الثقافي في كردستان، حيث تعمّ الحرية والتعددية وتكافؤ الفرص؟
- هاك أوّلاً تكملة للأبيات السالفة بمثابة لسان حالي ، ألا وهو حال " السّمك المأكول والمذموم" وهي لشاعر عربي قديم، وأرجو ذاكرتي المتألمة ألاّ تخنّي:
" يا دهرُ ماترفع منْ ماجدٍ
  إلاّ صقيع الذهن أو مسخرةْ
  أو مَنْ تكن زوجته قحبةٌ
 أو مَنْ تكن  نقبته محبرةْ
 أو مَنْ يكن قوّاداً من صغرهْ
 يجمع بين الرجل والمرةْ"
 أمّا السبب فلكوني فيليّاً مستقلاًّ (بلا عشيرة حزبيّة أو ولاء لشخصيّة متنفذة بارزة) وزاهداً أبيّ النفس وصِداميّ المواقف وشرس عنيف في حومة الحق حدّ التهوّر والمجازفة... وفي العراق قل: عزرائيل ولاتقل : مستقل! حيث تسود المحاصصات الحزبية والعشائرية والمناطقيّة والولاءات الشخصية سائرالأجهزة والدوائر الثقافية الرسمية واللارسمية، حتى داخل الحزب الواحد، بل الخليّة الواحدة.. لعلّ القول المأثور الآتي ينطبق فعلاً على حالي وأحوال المثقفين الإستثنائيين أمثالي " قوزى به ر ئاكَردان بى  به هايه / لاقيمة للكُسّ المبذول جنب الموقد" ولئن تطغى على القيادات الكرديّة السياسية والثقافية سيكولوجيا عبادة الموتى و الأجانب واللاجئين السياحيين(المغتربين) واستمراء نفاق الكتبة الذيليّين ، لاسيما العفلقزادات المرتزقة المهرة في الربت على الأكتاف وأكلها، وما خفي كان أعظم ؛ فلا مجال إذنْ لمشاريع أمثالي، إنّما كـ (برغي أو واشر) ليس إلاّ ، في مجـلة أو مؤســــــــسة  ثقافية للتصحيح اللـغوي وإعادة  تحـرير شخابيط  و خرابيط  وترجـمة ( العباقرة الأفذاذ!) تحقيقاً لمقاصد (صناعة الكاريزما)

* وما هي مشاريعك المزعومة؟
-  منها: تولّي الإشراف على مركز يُعنى بترجمة النصوص الإبداعية الكردية إلى اللغات الأخرى (لاسيما العربية) ونشرها ( ورقياً وإلكترونيّاً) وكذلك الحال مع الفنون التشكيلية وغيرها... والنجاح مضمون لهكذا مشروع بتضافر جهود الأدباء والمترجمين الكُرد القديرين من الناشطين بكلتا اللغتين العربية والكردية( وبعضهم ضليع فيهما) أمثال: حسن السليفاني، عبدالرحمن مزوري، عبدالله طاهر برزنجي ، تحسين الدوسكي، محمد موكري، لطيف هلمت، محمد البدري، غفور صالح، مكرم رشيد ، عباس عبدالله يوسف، آزاد برزنجي، آزاد عبدالواحد، محمد صابر محمود ، آزاد صبحي، أمين بوتاني، بنيامين يوخنا دانيال، كمال غمبار، بدل رفو المزوري، بختيار علي، نوزاد احمد اسود، محيي الدين محمود، حكيم نديم الداوودي، آوات حسن أمين، احمد رضا، عبدالرحمن الباشا  وأرخوان.......ناهيكم عن زملائنا الكرد في سوريا...هذا على الصعيد العام، أمّا على الصعيد الخاص؛ فهو التفرّغ لتنضيد وإعداد ديواني (جلالستان) للنشر، ولترجمة عيون الشعر العالمي إلى الكردية، مثل (الكوميديا الإلهية) لدانتي،(الفارس في إهاب النمر) لروستافيللي الجورجي ، (اللوزياده) لكاموييس البرتغالي، (الفردوس المفقود) لميلتون ، (تاو تي كنغ) للاوتسي و(المناجاة الصباحيّة)  لكَورونانك والأعمال الكاملة للخيّام ومختارات لبيدل دهلوي ووووووو..ثم سلسلة كتب( لنعرف: التركمان، الآشوريين،الأمازيغ، الأرمن ، الباسك، البلوج، التاجيك، الجركس، الكَرج وووو ....) لكنني رهن وضعي اللامؤاتي سابقاً وحالياً ومستقبلاً  تراني مشتتاً مبعثر الطاقات والجهود في إنجاز المواضيع الصغيرة( التي قد تبدو كبيرة للكثيرين حسب" الأعور في بلد العميان ملك") لعلّني أوفّر لقمة الزقنبوت الحلال لعيالي. وهذا لايعني أن ليس ثمة من يرحّبون بي، إنّما فقط  كمترجم لأعمالهم الأدبية والكتابة عنها ؛ لكون إسمي جواز سفر محبّذ إلى اللغة العربية.. بل ويحسبونني مجرد عتّال هامشي لإبداعاتهم لاأكثر، في حين لايرقى أغلبهم إلى مستوى قاريء لنصوصي الإبداعية وحتى البحثية والترجمية! يا لها من مفارقة ليس ثمة أديب كردي لايتمنى ترجمتي لنصوصه والكتابة عنها، بل ثمة العشرات من الحانقين الناقمين عليّ؛ لمجرّد انني لم أترجم لهم أو أكتب عنهم  كما يهوون عن كتبهم! باختصار تجدني على هامش الهامش؛ حدّ االإستبعاد والتجهيل في أغلب الفعاليات والأنشطة الثقافية (أغلبيتها ذات طابع دعائي  حزبي بأسلوب سياحي ، تديرها المافيا البسنزيّة ) فمثلاً  لمْ أُدع إلى هذا المهرجان( مئويّة الجواهري) والذي دعي إليه أكثر من ستمائة شخص في الاقليم وجلّهم ممن يهبّ و يدبّ في حفلات الأكل والشرب! إنما جئت تلبية لمهاتفات بعض أصدقائي وزملائي ومعارفي من المثقفين العراقيين المغتربين وغيرهم. فبالأمس مثلاً  إستفزني مسؤولان كبيران من الحزبيين الأدبجية محميين بشرطيين ، وراحا يحاسبانني على حضوري ولقائي وحواري مع أصدقائي من الضيوف البارزين أمثال: فاضل العزاوي، عبدالكريم كَاصد ، رفعت سلاّم وأنت(ياسين عدنان) وآخرين، مهددين إيّاي بالويل والثبور : " كيف تجيء إلى هنا وأنت غير مدعو؟! ثمة من بلّغنا بإنّـك تتحدث بسوء مع هؤلاء العرب الأغراب عن تجربتنا الديموقراطيّة!" و" لماذا لاتكسر رقبتك وتذهب إلى بلد آخر؛ إذا لايروق لك الوضع في كردستان؟!" فتلقّنا مني أحد دروسي التأديبية المعهودة؛ حيث أجبتهما قائلاً: " هؤلاء ليسوا بأغراب وأنتم المسؤولون عن دعوتهم، ثمّ إنهم  أصدقائي وزملائي وقد جلبوا لي العديد من الكتب والمجلات وودّوا لقائي داعين إيّاي هاتفياً، وإلاّ فوقتي ليس من تبن لأبدّده مع البهائم! ثم إنني راغب أصلاً عن حضور مثل هذه الأنشطة السياحية باسم الثقافة والإبداع! في حين أنكما ممتثلان لهم كنادلين (بويين) في خدمتهم وتغدقان بالهدايا حتى على زوجاتهم ؛ لعلّكما وأمثالكما تحظون بالتقاط  صورة مع هذا أو ذاك منهم ؛ لتوظيفها في مقال عنكم باعتباركم في مصاف المثقفين المبدعين من العرب!! فزعق كبيرهما : " أنا أحذرك بصفتي رئيس إتحاد أدباء..." فأجبته: " إن اتحادك وإعلام حزبك لم يخدما الثقافة الكردية نصف خدمتي لها؛ فلاتقصّر في إيذائي بكل ما أوتيتم من قوة واقتدار وسطوة، ولتختنّي من جديد إن استطعت!" وعندها إلتفت ليستعدي عليّ الشرطيين ،إذا بهما قد غادرا تعاطفاً معي وخجلاً من المزلق؛ فضرب الطاولة بقبضته بكل ما أوتي من قوة؛ بحيث تطايرت قناني البيرة والأقداح، فتراكض الندّل...فكظمت عفطة بغداديّة أصيلة تليق باعتدائه الأثيم عليّ وبالشاعر المحتفى به( مدّاح الملوك والسلاطين وقادة العفالقة) وأنا أغادر فندق(جوارجرا)...
 
* مفهوم وواضح جداً... إنهم يحسدون موقعك المحترم  لدي الكثير من النخبة الثقافية العربيّة؛ ولذا يسعون إلى حجبك عن المشهد..
- ماكان بودّي الإجابة قطعاً عن سؤالك الأخير؛ لكنّه استفّزني صميميّاً وفجّر دماملي المتقيّحة منذ عقود. حقاً ما قيل " لاكرامة لنبيّ بين بني قومه" رغم كوني مجرد مثقف عصامي متواضع العطاء ليس إلاّ، رهن الظروف السائدة، يسابق الموت في كل لحظة بالقراءة والكتابة والترجمة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر...

* ماهي صورة المبدع في نظرك؟
- أرى الإبداع فعلاً تقدميّاً إستثنائياً في جميع العصور، والمبدع منفرداً خارج الأسراب والقطعان، وليس هنالك سوى القلة المستثناة من المبدعين العباقرة المتجاوزين لعصورهم، أما الباقي منهم فهم إعتياديون في مستوى الحاجة التاريخية لعصورهم، في حين تخلّف البشر الآخرون( ومنهم الإنتلجنسيا) عن مسيرة الركب الحضاري؛ وهنا أيضاً تكمن محنة المبدع المتجاوز لمجايليه أو لعصره، لأنه يدخل ممر اللعنة، ويُحارب حتماً، ويمكن تشبيهه بغزال المسك(العطر) الذي لاينضح جلده العطر إلاّ إثر ضربه بالسوط ومطاردته! وكذلك بدودة القز، التي (لم ولن تنقرض سلالياً) رغم قتلها بالماء الحار عند جمع خيوط الحرير!

* أنت أديب عصاميّ النشأة؛ فقد تيتمت مبكّراً ولمْ تحالفك الظروف، بل ولم تنل حتى شهادة المرحلة الثانوية؛ فكيف تسنّى لك كل هذا التثقيف الموسوعي فضلاً عن تعلّم بضع لغات ؟
-  يمكنك أن تجد التفسير الصائب لحالتي في نظريّة ( التحدّي والإستجابة) للمؤرخ والمفكر الكبير توينبي، والتي أصبحت  نبراس هداية لي في ماراثون التثقيف والإبداع، بل والحياة من قبل ومن بعد ؛ منذ اطلاعي على فحواها وأنا يافع في الثالثة عشرة من عمري. ربّما تستغرب إن قلت لك قلّما مرّ عليّ يوم منذ 1961 وحتى اليوم لم أقرأ فيه (100صفحة) على الأقل، وقد إستثمرت سنوات وجودي السبع عشرة في القرى البعيدة والنائية والموبوءة ( حيث عملت معلّماَ ) بالقراءات الموسوعيّة والتعليم الذاتي ؛ فعلى سبيل المثال طالما أقرأ القواميس( ببضع لغات) كما لو انها روايات مسلّيّة! حتى غدوت مرهف الحس لغويّاً حدّ معاملة الحرف الواحد ككائن حيّ، بل أراجع أحياناً أكثر من عشرة قواميس لضبط  دقة لفظة واحدة. وقد تتساءل كيف يمكنني ذلك؟ فالجواب هو ان مايُقرأ لايفارقني ليل نهار؛ حيث تجدني أقرأ في كل آن ومكان،وقد غدوت بالمران سريع الإستيعاب جدا؛ حيث تكفيني أحياناً إلقاء نظرتين عمودية وأفقية على الصفحة لألخص فحواها أو أستظهرها لاحقاً؛ وهذا مما آزرني ويؤازرني في الكشف عن عشرات السرقات والإنتحالات، التي قد تعود مظان بعضها إلى ماقبل عقود!... ثم إن والدي ربّاني تربية إسبارطيّة منذ الثالثة من عمري؛ فقد عوّدني على السهر، وحتى اصطحابه ليلاً إلى الصيد والمشي 15- 20 كم وسط الأدغال والأحراش ، وعلّمني السباحة ، ناهيك عن الإستهانة بالسحالي والسعالي والجن والضواري والشياطين، والإستماتة من أجل الحق والحقيقة ؛ وعليه نشأت قويّاً عنيفاً غير هيّاب و جلداً صبوراً لاينال من عزيمتي الجوع والتعب والسهر والوعيد والتهديد، بل فقدت حتى (لذة الخوف) إلى حدّ بعيد...وشعاري الأثير في حومة الحق " لحية القاضي عندي مكنسة" باختصار، لقد إنلغت طفولتي واسترجلت مبكّراً ومارست شتى صنوف الرياضة وحزت على بعض البطولات على صعيد القصبات والمحافظات؛ فصرت قويّ الجسم وصداميا (و ليس صدّامياً!) يهاب الشقاوات(القبضايات/ البلطجية) بأسي...وقد صار شعاري منذ مراهقتي الجمع بين (الثقافة والقلافة) وإلاّ ماذا كان سيكون مصير يتيم عليل وبائس مثلي في غابة الضواري العراقيّة؟!
    
* حسناً ألا يشتت إنشغالك الموسوعي قراءةً وشبه الموسوعي كتابةً وترجمةً  تركيزك على الإبداع الشعري؟
- كلاّ؛ فمجمل إطلاعي الموسوعي يصب في نصوصي الإبداعية، وهنا تكمن علّة اختلافها وتميّزها عن نصوص الآخرين سيّئة التغذية، ثم إن شرارة الإبتكار غالباً ما تندلع من التماس الحاصل بين الحقول المعرفية المختلفة والمتباعدة عن بعضها البعض..إن الشاعر الذي يعوّل على قراءة الشعر وحده؛ لاينتج أبعد من المحاكاة الجيّدة؛ مهما عظمت موهبته، أمّا الشاعرالموهوب والواسع الإطلاع معرفيّاً؛ فتتبلور لديه رؤيته الخاصة المتفردة، وتتزايد قدرته على الإبتكار والإبداع؛ فيستحيل مبدعاً أصيلاً ومتفرداً...ومن هنا يمكنني الزعم أن قصائدي هي أنا( بكل كياني) ؛ إن صحّ استقصاء بوفون عن تطابق الأسلوب والإنسان، وهو كذلك؛ مهما جعجعت بدعة موت المؤلف!

* ها قد تبيّن لنا استهداؤك بتوينبي في فلسفة التاريخ؛ فماذا عن الفلسفات الأخرى؟
- رغم كل المصائب والمحن إثر تيتّمي واسترجالي المبكّر أراني سعيداً لإكتشاف نفسي مبكّراً جدّاً مقارنة بأترابي وأقراني، بل حتى الكثيرين ممن هم أكبر منّي سنّاً؛ فقد أصبت بـ ( سعار القراءة) منذ نهاية الصف الأول الإبتدائي (صيف1958) ورحت ألتهم المزيد من الصحف والمجلات والكتب، بحيث دشّنت قراءتي للمنفلوطي وجبران وسلامة موسى وأنا تلميذ في الرابع الإبتدائي ، وقراءة الفلسفتين الماركسية والوجودية و التراث الصوفي وأنا طالب في الصف الأول المتوسّط ، فمثلاً ( ربّما لايصدّقني أحد) بأنّي كنت قد قرأت (المواقف والمخاطبات) للنفّري في 1967 أي قبل أن يصدر الشاعر الكبير أدونيس مجلته (مواقف) ويروّج للنفري! ولقد أفدت من الماركسيّة في الرؤية الموضوعية ، أي في تحليل وفهم معطيات الواقع ، ومن الوجودية تعلّمت  المسؤولية الذاتية وشجاعة الضمير في المواجهة  وكون الإنسان موقفاً ، ومن الصوفية الرؤيا الغنوصيّة والتسامح الديني والتآخي البشري والزهد في جيفة الدنيا. والطريف انني كنت أنعت نفسي بـ ( ساركسي/ سارتري+ ماركسي) منذ 1966 وأنا في الصف الأول بدار المعلمين الإبتدائية في كركوك. ولايسعني هنا إلاّ أن أطرح فلسفتي القرائية، ألا وهي أن عمري الآن ليس خمسين سنة، وإنّما عشرة آلاف سنة على أقل تقدير ؛ لكوني قد سافرت عبر شتى القراءات إلى أقصى الأمكنة والأزمنة الغابرة، وعشت واطلعت على شتى الحضارات، كما لو انني عايشت البشر القدامى في كل العصور بعقلي وروحي ووجداني، لاينقصني هنالك سوى عمليات الأكل والشرب والجنس والتغوّط والتبوّل، وكلّها نافل لايضيف شيئاً! فمثلاً أحسبني الآن في عمر جدي(لأمّي) الذي شارك في ثورة العشرين وجرح فيها وتوفي بعد شهر، لكن المسكين رحل ولم يعرف عشر ما أعرفه أنا(عبر القراءة) عن تفاصيل تلك الثورة، كما لوأنني كنت أكثر حضوراً منه فيها...! ولولا جنون القراءة وقلق نشدان الكمال؛ لألّفت وترجمت لحد الآن أكثر من مائتيّ كتاب بأحجام ومستويات متوسطة. وهنا يكفيني شرف نعتي بـ (القاريء العظيم) من قبل الأستاذ الجليل عبدالغفار مكّاوي ، ذات رسالة منه إليّ. 

* وماذا عن وضعك السياسي؟
- لقد وعّاني والدي منذ الرابعة - الخامسة من عمري ضد الإقطاع والإستعمار، وأذكر مناصرته لمصر ضد العدوان الثلاثي حدّ الذهاب إلى بغداد؛ للتطوّع مجاهداً..وكذلك مناصرته للثورة الجزائريّة، وقد كلفني بتوزيع صور المناضلة البطلة (جميلة بوحيرد)..ومن هنا  وجدتني إثر ثورة تموز1958 ذا ميول شيوعية وقومية كردية، ثمّ صرت لاحقاً مؤيّداً صميمياً لحشع ( جناح القيادة المركزيّة/ الكفاح المسلح) لكنني رغم حماسي الجارف ومؤازرتي الحميمة له لم أنتظم في صفوفه ؛ بسبب تكويني الفكري والأدبي (ساركسي/ تروتسكوي+ قومي كردي + سوريالي + مؤمن صوفي/  يا لها من هريسة عجيبة!) حتى ان أصدقائي الشيوعيين كانوا ينعتونني ( أنا الفقير المسحوق) بالـ  ( بيتي برجوازي الشوفيني) و( عاشق الكتب الصفراء)! لاسامحهم الله. عموماً لم ألتق لحد الآن أيّ سياسي جدير باقتدائي له ثقافة وسلوكاً....ومنذ مطلع سبعينات القرن الماضي أصبحت (أنتي سياسة)!

* والله انك شخصية إستثنائيّة طريفة عجيبة غريبة الأطوار! فعلى أيّ جيل شعري تحسب نفسك؟
-  لا لست إستثنائيّاً ولاغريب الأطوار، إنّما مجرّد إنسان إعتيادي في غاية البساطة ً، سريع الخاطرة والبديهة والنكتة، بل وقد آزرتني الفكاهة السوداء المريرة في مقاومة الفاشست والمحن والنوائب.. صدّقني لاهمّ لي سوى ضالّتي المنشودة المتمثلة في ثالوثي المقدس( المعرفة، القصيدة والمحبة) ولم أهدر جسدي وروحي في أيّما موبقات؛ فلست أدخن حتى...ولقد قضيت الفائض من وقتي في الرسم والرياضة والغناء...لكن نعتك قد ينطبق عليّ ثقافيّاً؛ فتكويني الثقافي يبدو حتى للمثقفين الطليعيين معقداً وغريباً، فضلاً عن كوني فظاً وقاسياً غير متهاون وغير مساوم وغير مهادن فيما يتعلق بالشأن الثقافي . أمّا تجييل الإبداع والمبدعين (بدعة فرنسية على الأغلب) فلاأراه صائباً ، وإنّما هو هراء مضحك في نظري ويليق بحيوانات الكولخوزات الشيوعية، وعادة ما يلجأ إليه الشعارير الشاعرون بقصر أعمارهم الإبداعيّة أو فنائها عاجلاً! وإلاّ فمن أيّ جيل هؤلاء : هوميروس، أوفيدوس، فرجيليوس، كونفشيوس، لاوتسي، مار أفرام السرياني، المعري، المتنبّي، النفّري، الخيّام، ناصر خسرو، مولانا جلال الدين، إبن عربي، دانتي، روستافيللي، حافظ الشيرازي، الملاّ الجزيري، كَورونانك، فضولي بغدادي، غونغورا، شيكسبير، سرفانتس ، دافنشي، بيدل، بوشكين، سايات نوفا، غويته ، أباي كوننباييف، رامبو وشهريار الآذربايجاني...؟!
في الحقيقة وجدت نفسي منذ البداية ودوماً خارج الأسراب والزمر المجيّلة، حتى لو حسبت عمريّاً على (الجيل السبعيني!) لأنني بكل بساطة سبقت أترابي وأقراني قراءةً وكتابةً ونشراً قرابة العقد، أيّ جايلت (الستّينيين) ولذا بالذات " دخلت ممر اللعنة" طبقاً لقول مالارميه:  "عندما تسبقُ القصيدةُ تاريخَها؛ يدخلُ الشاعرُ ممرَّ اللعنة"! فضلاً عن حسباني خارجيّاً (من الخوارج) في كلا المشهدين الشعريين العربي والكردي! بحيث صرت أبرز أدباء الظل العراقيين المسكوت عنهم! وهكذا تجدني لاملاذ ولا ظهير ولامغيث لي سوى الكتاب والكومبيوتر والإنترنيت(شبكة العنكبوت حبيتي العظمى)... وبخصوص الإنترنيت أقول إنه موئل تفاؤلي لكسر أطواق الغيتو والتجهيل والإستبعاد والتحجيم والتعتيم والتهميش والتهشيم ،التي ضربتها ومازالت تضربها الدكتاتوريات والمافيات الثقافية السائدة في العراق خاصة وفي المهاجر عموماً حواليّ المبدعين المستقلين سياسياً وفكرياً... وإن كان هنالك بصيص من التفاؤل لديّ؛ فهو كامن في ضمير المستقبل.

* عرفت أنك متزوّج ولك خمسة أولاد وبنت؛ فكيف توفّق بين مسؤوليات العائلة والهم الثقافي؟
- يقال عندنا عن الزواج وتكوين عائلة رهن ظروف بلادنا اللامواتية: " منْ فتح زرفاً؛ فتحوا فيه ألف زرف(ثقب)!" وهذا المثل الساخر يعني أن المسؤوليات العائلية (وبالأخص توفير العلف والسكنى والأمان)  تستعبد المبدع حتماً، وتحدّ من زخم انطلاقه وحتى من شجاعته أحياناً، لكنها في الوقت نفسه تحسسه وتبصّره بالمسؤولية الوطنيّة، أي تنتزعه من أنويته وأنانيته؛ فيتبلور وعيه  بالإنخراط  في الهم الجماعي ...وتبقى المسألة نسبيّة؛ فثمة أصدقاء وزملاء ومعارف أدباء وفنانون عزّاب أو متزوجون ولهم أطفال قليلون وظروفهم أفضل من ظروفي المعاشية بكثير، لكنهم لم يحققوا شيئاً يّذكر..بل وأعرف العشرات ممن إحتضنتهم بلدان أوربا وغيرها منذ عقد – ربع قرن، لم يتقنوا حتى لغة البلد (المهجر)، ناهيك عن تآكل لغتهم الأم! لقد ضاعوا في رأيي! أمّا ما يتعلّق بي ، فقد تزوّجت عن حب متبادل وتكافؤ عاطفي واجتماعي وثقافي ضامن للتفاهم والعيش السعيد رغم الظروف القاهرة، لكنما كان المفروض بنا الحدّ من الإنجاب أكثر مما ينبغي والذي أثقل كاهلنا كثيراً..لقد كنت في 1975على مفترق حاسم: إمّا أن أخرج من العراق، أو أبقى وأتزوّج  ملتصقاً كالقراد بمصير بلدي ، وحسناً فعلت بزواجي رغم بقائي على قيد الموت عموماً...وإلاّ لما كنت بهذا الوعي ولا هذا الإنجاز؛ مهما كان متواضعاً...
 
* بقى عندي سؤال يتعلّق بمستقبل العراق بعد صدّام؛ فماذا ترى في الآفاق ؟
- ولماذا بعد صدّام واتخاذ اسمه كمانعة صواعق؟ فثمة ألف صدّام وصدّام ينتظرون الولاية! قل: النظام البوستعفلقي....فحسب قراءتي المعمقة لمعطيات الماضي والحاضر والخاصة بالشرطين الذاتي (العراقي) والموضوعي(الخارجي) لاسيما لستراتيجية أمريكا الساعية إلى الإستيلاء على المحاور الجيوبوليتيكة المهمة في العالم والإستحواذ على شتى ثرواتها، لاسيما البترول والغلال وأسواق تصريف الأسلحة ؛ أتوقع تغييراً سياسياً فوقياً في العراق، بأسلوب شبيه بما حدث لأفغانستان، ثمّ تفجّر مستنقع وخيم، وأتمنى أن أكون مخطئاً في إستشرافي هذا الذي طرحته في ربيع 1996 في مبحث (ألايجب دقّ الناقوس...؟!) باســـم (هفال لُرستاني) على صــفحات جريدة ( نداء الشغيلة)

*حسناً ماهي علّة أسمائك المستعارة؟
- أسمائي المستعارة تناهز الأربعين؛ علّتها تعددية وتنوع مساهماتي ، لا التخفي وراءها خشية أو خوفاً من أيّما سلطة أو أحد، ودليلي على ذلك هو خوض أعنف سجالاتي الأدبية والصحافية باسمي الصريح...أجل؛ يعود اتخاذي للأسماء المستعارة إلى النصف الثاني من ستينات القرن الماضي وتكريسها في سبعيناته لنشر أكثر من مساهمة في العدد الواحد من جريدة أو مجلة مثل  (الثقافة) منذ 1973 حتى احتجابها في 1988 وفي الصحف والمجلات الكردستانية بعد انتفاضة 1991مثل: خبات، وطن الشمس، كَرمسير، كَولان العربي، باريش ..حيت احتضنت غالبية أعدادها (مساهمتين- سبع مساهمات) لي!

* هل عندك أيّة إضافة ؟
- أرى من الحكمة ومن أجل خدمة اللغة والثقافة العربيتين وحوار التآخي المنشود بين الشعوب والأمم الإسلامية وغيرها؛ أن تكترث وترعى وتعنى الجهات الرسمية واللارسمية العربية من المحيط إلى الخليج بالمبدعين الناشطين باللغة العربية (من الإثنيات غير العربية) بشتى الطرق والأساليب المتاحة كتعضيدهم في طبع ونشر تآليفهم وترجماتهم، ودعوتهم إلى المهرجانات الثقافية وتخصيص جوائز تقديرية لهم حسب الإستحقاق، وليس  وفق آفات المحاصصات والمحاباة والمحسوبية والمنسوبية المقيتة...يقيناً ان كل ذلك سيعود في نهاية المطاف بالفوائد الجمة على لغة وثقافة أخوالي العرب ؛ إذا ما اختاروا الإنفتاح و نبذوا الشوفينية المدمّرة... 

* شكراً للمبدع الجسور جلال الفيلي ، فعلاً إنك مثقف متفرّد ومنشق! سأسعى مخلصاً لنشرهذا الحوار الفريد المثير وكذلك  قصائدك وترجماتك في المغرب، بل حيثما يتاح لي...   
- شكراً لإستفزازك لي وإستنطاقي ولعنايتك النبيلة، إنّما يظل شرطي الأول والأخير هو نشره بلا أيّ تصرّف.    
        


 


جلال زنكَابادي:
عدتُ من نزهة الموت!

حاوره : (؟!)

  زرنا الشاعر والمترجم والباحث جلال زنكَابادي بضع مرّات ؛ إثر عودته من عمّان ، بعد إجراء عمليّة فتح قلب واستبدال شرايينه المعطوبة ، للإطمئنان على صحّته ، والتمنّي  له بالشفاء العاجل والتام ، حتى يعود منتجاً معطياً كما عهدناه ، وفي كلّ مرة دردشنا معه دردشات دوّنْناها، ثمّ اختزلناها وراجعها معنا ؛ فخرجنا بهذا الحوار في نهاية المطاف ، علماً بأنّه اقترح دمج حوار آخر قصير معه أجراه الزميل (هرمان علي) والمنشور في مجلّة (الصوت الآخر) الأربيليّة ؛ بغية حذف الأسئلة والأجوبة المكررة ، واستكمالاً للحوار الحالي ، وقد ابتدأناه بالسؤال عن تأثير محنة المرض في مزاجه ورؤيته للحياة والكتابة ، وعن المتغيّرات في موقفه منهما :
- مشكورون جداً على استذكاركم لي ومروركم عليّ . طبعاً ثمة متغيّرات لدى العائد من نزهة الموت بمعجزة ، خصوصاً وإننا " لانبلغ ذروة وعينا لقيمة أجسادنا ؛ إلاّ حين يخبروننا بإحتمال إصابتنا بمرض عضال " كما يقول الفيلسوف والشاعر الإسباني رافائيل أركَولّول ، أمّا في حالة النجاة من الموت إثر عمليّة جراحيّة تتجاوز الكبرى كمثل حالتي ، فيمكن تشبيهها بولادة جديدة لتدشين شوط آخر من الحياة طال أم قصر. ومع ذلك تظل تلك المتغيّرات لدى أمثالي تكتيكية تثري ثوابت رؤيتهم الحياتية المتبلورة منذ عقود ، وأهمها وجوب إنصرافي إلى استكمال انجاز وإعداد العشرات من تآليفي وترجماتي (مجموعاتي الشعرية العديدة بالأخص) لنشرها ورقيّاً أو إنترنتياً، أو بكلتا الطريقتين إنْ أمكن ، وللعلم صدرت لي حديثاً مجموعتان : (قصائد تأبى أيّ عنوان و...) و (هاهي معجزتي) فلو كنت قد رحلت عن الدنيا إثر جلطة قلبي الأخيرة ؛ لذهبت غالبيّة أعمالي أدراج الرياح ، حتى المنشور بعضها في الصحف والمجلات ؛ لأن آثار مبدعينا الأدباء والفنانين ، رهن واقعنا الثقافي البائس ، تضيع بمجرد موتهم ، إلاّ ماندر! فمثلاً : ما مصير أكثر من مائة لوحة أهداها فناننا الرائد عزيز سليم (قبيل وفاته) إلى وزارة ثقافة إقليم كردستان و مجلس وزرائها ؛ بغية عرضها الدائم في جناح خاص باسمه في (قصر الفنون)؟! وماهو مصير مخطوطات الشاعر الكبير محمود البريكان ، وما مصير مخطوطات المبدع الكبير جليل القيسي؟! ثمّ ان هذه التجربة المريرة قد كشفت لي أكثر من ذي قبل ، المعادن الحقيقية للأصدقاء والأقرباء والمعارف وحتى الغرباء ، ناهيكم عن غالبيّة المؤسسات والأجهزة والمراكز الثقافية والصحافة الكردستانية والعراقيّة ، وعلى رأسها وزارتا الثقافة في أربيل وبغداد ، ولسان حالي بيت لشيخنا الخالد الشريف الرضي :
" يعرّفك الإخــوان كلّ بنفسه
وخير أخ منْ عرّفتك الشدائد"
× حبّذا لو شخّصت الوضع أكثر.
- إذنًْ، إسمعوا هذا الدارمي :
" كَال المثل عالنّاس ســــــــرّ و صناديج
  و كلّشْ عرفتك زين مِنْ مرْ علَيْ ضيج"
تصوّروا لم يفتقدني ولم ينجدني في محنتي هذه سوى (إتحاد أدباء دهوك ، الذي له أكثر من وقفة نبيلة معي) بل استكثرت أجهزة الإعلام الكردستانية عليّ حتى خبراً عابراً ! في حين ما أسخاها مع الزمّارين والمهرّجين و(الفنّانات الدلّوعات!) لكنّما البركة كلّ البركة كانت في المساعدة المجزية من لدن الأب الشفوق الأستاذ جلال الطالباني رئيس جمهورية العراق الفيدرالي ، والتي سعى إلى تدبيرها (مشكوراً) الأخ الكبير الأستاذ فخري كريم راعي الإبداع والمبدعين . كما يجب عليّ  هنا التذكير بأولئك الأصدقاء والغرباء الذين هبّوا لمؤازرتي معنوياً وماديّاً خلال أكثر من أربعة أشهر من علاج مرضي ، وقد ذكرت أسماء معظمهم في مقالتي (شكراً للجلطة وامتناناً لكلّ منْ آزرني) المنشورة في مجلة (بغداد/ ع 19 في 10ايار2009 ) وفي موقع (الكاتب العراقي) وهنا لابدّ من أن أضيف ما استجدّ بعد المقالة السالفة ، حيث انبرى الأخوة الأساتذة الآتية أسماؤهم (جزاهم الله خيراً) لإعانتي مادياً لاستكمال علاجي وهم : خسرو الجاف، سعدون فيلي ، حمه كريم عارف ، حسن سليفاني ، نوزت دهوكي ، محمد سعيد الجاف ، عبدالرزاق الياسر، د. فيصل المقدادي ، د. محمد عارف ، حكيم نديم الداوودي ، بدل رفو المزوري ، دارا محمد علي ، كامل صالَي و سوران رمزي زنكَنه. فلولا نخوة وشهامة السيّد رئيس الجمهورية وهؤلاء الأكارم الطيّبين ؛ لما  قيّض لي إجراء تلك العملية الجراحية الباهظة التكاليف جداً بالقياس إلى الوضع المادي لموظف بسيط مثلي ! ولذا فأنا مدين ماحييت لكل من ذكرتهم هنا وفي مقالتي المذكورة ، وطبعاً للجراح العبقري الأستاذ الدكتور يوسف القسوس وطاقمه الرائع بمستشفى عمّان ، وللعناية الربّانية من قبل ومن بعد...وعهداً عليّ و"وعد حرّ..." أن أواصل وأضاعف كفاحي الأدبي – الفكري بما يبقيني عند حسن ظن الأفاضل والفاضلات ممن آزروني / آزرنني ، ولابدّ هنا أيضاً من التذكير بكل طيّب وطيّبة كتب / كتبت عني وعن قريني في المرض الدكتور ثائر العذاري ، في موقع (مركز النور) وفي مقدمتهم الدكتور أثير شهاب.
× نظن علّة فتور أجهزة الإعلام الكردستانية إزاءك هي أنها تؤاخذ عليك كونك أديباً باللغة العربية.
- يا للجهل المدقع لأساطين تلك الأجهزة ! ويا لسفاهتها في الكيل بأكثر من مكيال ! لنفرض جدلاً انني أديب عربي ؛ أما تراهم يهتمون بالأدباء العرب ، بل حتى بالأجانب شرقاً وغرباً؟! وهنا لمجرد التذكير أقول : إن ماكتبته باللغة الكردية وماترجمته إليها منذ قرابة الثلاثين عاماً يبلغ على الأقل (بعد تصنيفه) أكثر من خمسة عشر كتاباً متوسط الحجم ، أمّا ما ترجمته من نصوص أدبية وغيرها عن اللغة الكردية إلى اللغة العربية وما كتبته بالعربية في شؤون الثقافة والقضية الكرديتين ، منذ قرابة الأربعين عاماً ، فيبلغ على الأقل (بعد تصنيفه) أكثر من خمسة عشر كتاباً متوسط الحجم ، ناهيكم عن أكثر من مائة مساهمة في شؤون الثقافات : التركمانية والكلدوآشورية والأرمنية ، وهي تبلغ أكثر من عشرة كتب ! ثمّ ياترى هل ثمة من مجايليّ من ينازعني في مجال تغطية الثقافة الكردستانية باللغة العربية بمستوى غزارة وتعددية وتنوع مساهماتي؟! يا للنكران والجحود ! أبعد كل هذا أجدني في منظور المتجاهلين من الحسّاد الحاقدين مجرد مكروب أجنبي؟! هذا في الوقت الذي يتمتع بالحظوة شبه الأسطورية أناس آخرون ؛ لمجرّد أصولهم الكرديّة التي تذكّروها بعد تأسيس حكومة الإقليم أو بعد سقوط النظام العفلقي ! في حين لم يكتبوا صفحة واحدة باللغة الكردية ، ولم يترجموا عنها أو إليها صفحة واحدة ، بل حتى لم يقرؤوا بها صفحة واحدة ، ومنهم من استنكف تعلّمها وكان ذلك في مستطاعه ! مرحى لـ (العدالة الكردستانية !) يبدو أنني قد أخطأت خطأً فاحشاً في إنخراطي وانغماسي في خدمة الثقافة الكردية طوال بضعة عقود ، بل كان المفروض عليّ أن أبقى مثل أديبين آخرين ( من أرومة كرديّة) يكتبان باللغة العربيّة (أحدهم عراقي ، والآخر سوري) وهما مبجلان ومحظوظان جداً، فكتبهما تطبع طبعات عديدة وتترجم إلى اللغة الكرديّة وتغدق عليهما العملة الصعبة من بيت مال الشعب ويمنحان الجوائز ؛ لمجرّد أن عندهما " الذي عنده حبايب ؛ يشبع...!" وكان العراقي المقصود يعدّ من المحظوظين القلائل في نشر كتبه ونيله الجوائز في ظل نظام القائد الضرورة ! لكنّما هيهات ان أكون مثلهما ؛ فقد قررت المعطيات التاريخية المتواشجة مع مفردات من سيرتي الذاتية مصيري أن أغدو أديباً ومترجماً من ذوات الفلقتين ، أي بكلتا اللغتين العربيّة والكرديّة. 
× كيف ومتى تقرر ذلك ؟
- حدث ذلك منذ مطلع سبعينيات القرن الماضي ، إذ انخرطت في شأن قضيّتي القومية ، في المجال الثقافي بالأخص ؛ ممّا أدى ذلك إلى إبتعادي عن الأجواء الرحيبة للثقافة العربية المتطورة والمتقدمة بالمقارنة مع شبه الغيتو والتخلف الطاغيين على أوساط الثقافة الكردية رهينة الحزازات والحسادات وحتى الخيانات !
× وماهي الأسباب ؟
- إنها أسباب ذاتية وموضوعية متواشجة ؛ فلمْ أشأ أن أكون أديباً عربياً منغمساً في قضايا القوميّة العربية والشأن الصرف للثقافة العربية كمثل السّابقين وما أكثرهم ! أمثال : محمد كرد علي ، خيرالدين الزركَلي ، جميل صدقي الزهاوي ، معروف الرصافي ، عبدالمجيد لطفي ، بلند الحيدري و حسين مردان...ولقد آزر صعود حزب البعث الشوفيني الفاشي بانقلابه في 17 تموز 1968 توجّهي هذا ، ثم انهيار جناح القيادة المركزية من (حشع) وانخراط جناح اللجنة المركزية لحشع في جبهة مع حزب البعث ، هذا من جهة ، ومن الجهة الأخرى نجاح الحركة القومية التحررية الكردية في فرض وجودها ، وخاصة في إبرام اتفاقية  11آذار 1970 ممّا أدى إلى بث الروح القومية والأمل في نفوس الشبيبة الكردية ، ومن هنا ابتدأ تحوّلي من النزعة الأممية إلى النزعة القومية الديموقراطية ، فضاعفت مساعيّ ، التي دشنتها لتعلم اللغة الكردية في أواخر الستينيات ، منكباً على قراءة ودراسة كل مايتعلق بالثقافة والقضية الكرديتين ، وسرعان ما دشنت نشر بواكير ترجماتي عن الكردية إلى العربية في 1971 حاسباً ذلك بعضاً من أداء المهمة القومية...وعليه ؛ فقد حوصرتْ واختنقت تطلعاتي وطموحاتي الكبيرة إمتثالاً لدائرة الثقافة الكردية الضيّقة. لقد كنت متحمساً جداً، ولم أدرك في البداية معضلات الثقافة الكردية وأمراض المثقفين الكرد ، حتى وجدت نفسي أسوخ تدريجياً في أوحال مستنقع نتن ، حيث لاقيمة تذكر عموماً للمثقف المخلص والمبدع الجريء ، وإنما المجد والحظوة للإنتهازيين والجحوش الحرباويين ! ولقد بصّرني الشاعر الكبير بلند الحيدري بعاقبة اختياري للدائرة الضيّقة ، حين لمته ذات لقاء لعدم استمراره بالكتابة باللغة الكردية ، التي دشّن بها شعره ، في حين تحوّل إلى اللغة العربية.
× متى؟
- في1971 وقد أوصل قصيدتي (إيّاك أنتظر...) إلى الشاعر الكبير أدونيس ، الذي نشرها في مجلة (مواقف / ع 17- 18 / 1971)
× أتراك نادماً على اختيارك وما آل إليه مصيرك الثقافي؟
- أبداً، لست نادماً ؛ فلولا هذا الإختيار؛ لما كنت بهذا الوعي العميق والشمولي ولا بهذا التوجّه التعددي ، فبمجرّد أن يكون أيّ أديب أو فنان كردياً (بشرط أن  أن يكون حسّاساً وواعياً)؛ فهو إمتياز مضاعف في التراجيديا والتحدّيّات والأحلام والطموحات ! ثمّ هل كان في مقدوري أن أتعلّم وأتقن اللغة الفارسية (الغنية تراثياً ومعاصرة) بدون تعلمي وإجادتي للهجات الكردية الرئيسة ؟ ثمّ إن التراث الثقافي الكردي رغم تواضعه كمّاً يحتوي على كنوز ثمينة . ويجب ألاّ يغيب عن البال أن اللغة الأجنبية ، لا بل حتى اللغة الأم (المحرّفة مضمونياً لخدمة الأجنبيّ) طالما تساهم في بسط هيمنة الغزاة والمحتلين على روح شعب ونفي ذاته الحقيقية ، أي في تشويه حقيقته ودفعه إلى الإغتراب عن نفسه نحو التمسخ والذوبان في نهاية المطاف. وهنا أتذكر ماقلته للشاعر بلند الحيدري في اللقاء المذكور: " مهما يكن مصيري مستقبلاً ، فأنا أفضل أن أكون أديباً من الدرجة العاشرة بلغتي القومية ، على أن أكون أديباً عربياً من الدرجة الأولى ؛ لأن الإغتراب الروحي قاس جدّاً ولايطاق !"
× نستوضحك هذا الإغتراب الروحي .
- للأسف الشديد تسود النزعة الشوفينية الثقافة العربية منذ القدم ؛ فإمّا أن أن يذوب غير العربي ويستعرب نهائياً كأبي تمّام وابن الرومي مثلاً ، أو يظل مشبوه الولاء ومخوّناً منعوتاً بالشعوبية والزندقة كابن المقفع وبشار بن برد وأبي نؤاس ! لقد أتيح لي في صيف 1979 أن أحظى بوضع جيد جداً بالعمل في صحافة إحدى الفصائل الفلسطينية في بيروت ، ولكنني تفاديت ذلك وعدت ؛ لأنني لم أطق كلا الإستعراب والفلسطنة ، وٍاقدّم مثالاً على ما أعنيه ، ألا وهو تقديم عريف الحفل للشاعر سليم بركات (السوري الكردي الأصل) لقراءة شعره " والآن مع الشاعر الفلسطيني سليم بركات " في مهرجان المربد سنة 1985 بل نشروا من شعره بالنعت نفسه في جريدة (المربد) !
× هل نفهم من إشارتك إلى الأديبين الكرديين بالأصل واللذين يكتبان بالعربية ، انهما لايستحقان الإهتمام الذي يحظيان به في الوسط الثقافي الكردي ؟
-  هذا السؤال الإستدراكي ضروري جدّاً، وقد لبّى ما أطمح إلى توضيحه . إن هذين الأديبين والعشرات الآخرين من الأدباء والفنانين (من ذوي الأرومة الكردية) من ذوي الحضور في الثقافات : العربية والتركية والإيرانية ، وأقصد الذين تتناول مضامين أعمالهم (بغض النظر عن اللغة) الكرد وكردستان ، فضلاً عن نزعتها الإنسانية والتقدمية ؛ يستحقون الإهتمام والدراسة والترجمة إلى الكردية أكثر بكثير ممّا حظوا ويحظون به ، ولقد كتبت بنفسي عن هذه الظاهرة وعن العديد منهم ، أمّا ذكري لهذين المثالين فللإشارة إلى ظاهرة غياب العدالة وشيوع النكران والجحود ، والتي أساسها الكيل بأكثر من مكيال في وسطنا الثقافي ، وللتوضيح أكثر أضيف : إن مايحظى به الأديبان المذكوران مبالغ فيه جداً ، في راهن معطيات المشهد الثقافي الكردي ؛ إذا ماقورن بالإهمال الذي يعاني منه آخرون مثل الكاتب الكبير زهدي الداوودي ، الذي لايقل علوّ قامته الإبداعية عن قامتيّ ذينك الأديبين ، بل انّه أعلى منهما في كرديّة مضامين رواياته والكثير من كتبه الأخرى ومقالاته ودراساته ، ناهيكم عن أن ثلاثيّته الروائيّة ترقى إلى مستوى أعمال كبار كتاب العالم أمثال : توماس مان وفوكنر ونجيب محفوظ ويشار كمال. وهنا يمكن لكلّ ذي ضمير حيّ أن يتصوّر مدى الغبن الواقع على شاعر ومترجم وباحث غزير ومتعدد الأوجه مثلي بكلتا اللغتين (العربية والكردية) بالمقارنة مع الدلال الذي يحظى به سواه !
 لقد أضطرّتني الظروف الذاتية والموضوعية أن أكون منذوراً، طوال عقود ، بل شأني شأن العتّال الذي يقوم بـ (عمل شعبي) لخدمة الآخرين (وأقصد الأدباء والفنانين الكرد بالأخص) كمترجم وكاتب ، مهملاً الإهتمام بنشر شعري (بالأخص) وهو يبلغ بضعة آلاف صفحة باللغتين العربية والكردية.
× ولماذا لم تركز على الإنتاج باللغة الكردية لتوسّع حضورك وتوسّعه في المشهد الثقافي ، بينما واصلت الكتابة باللغة العربية والترجمة إليها، حتى عدّت كثرة من مساهمتاك داخلة في فضاء الثقافة العربية ، ولاعلاقة لها بالشأن الكردي؟
- لقد وعيت مبكّراً حقيقة ضرورة استثمار المثقفين الكرد للغات الأخرى : العربية والتركية والفارسية بالأخص ؛ بغية أن يتفهّمنا الآخرون كأمّة مغدورة مناضلة منذ قرون ؛ لإثبات كينونتها وتحقيق طموحاتها المشروعة. أمّا مساهماتي العربيّة خارج الشأن الكردي ؛ فهي تعبير عن الحد الأدنى للعرفان بجميل لغة الضاد العظيمة وأفضالها التراثية والمعاصرة على ثقافتنا الكردية وعليّ بالذات من قبل ومن بعد. فضلاً عن العلاقات والروابط التاريخية وأواصر المصير المشترك بين شعبينا الشقيقين الكردي والعربي ، فضلاً عن آصرة التصاهر التي تربط عائلتنا بالعرب.
× مارأيك  بالممارسات الديموقراطية في كردستان خاصّة والعراق عموماً ، لاسيّما الإنتخابات التي جرت خلال السنوات الأخيرة، والتي ستجري في 2010 وماهي مسؤولية الأديب في هكذا أجواء؟
- لقد كانت عملية الإنتخابات في إقليم كردستان لبضع مرّات منظمة ومريحة إلى حدّ جيّد ، وأتمنى أن تصبح (القائمة الكردستانية) نموذجاً لنبذ ظاهرة تشرذم وتناحر واحتراب فصائل حركة التحرر القومي في أجزاء كردستان كافة وضرورة توحيد خطابها السياسي ، وأسلوبها الممارساتي على ساحة السياسة الإقليمية والدولية. وبالطبع تعدّ الممارسة الديموقراطية في الإقليم أفضل من باقي العراق ، ولكن ما ساءني هو إقصاء وإستبعاد بعض الفصائل الكرديّة عن عمليّة الإنتخابات كحزب الحل الكردستاني ، ومع ذلك تفتقد دول الجوار في هذا المضمار لما للإقليم والعراق برغم الظروف الشائكة المحيطة ، ولكن " الديموقراطية ليست نقطة وصول ، بل نقطة انطلاق " على حدّ قول خوزيه ساراماكَو؛ ففي أكثر الدول ومنها الغربية تحوّلت الديموقراطية حسب إضافة ساراماكَو: " إلى كاريكاتور(.......) إلى مهزلة ، إلى فقاعة صابون " وهنا تكمن الخشية في أن يشوّه الديماكَوكَيون ويحوّلوا الديموقراطية الحقيقية إلى (ديموقراطية واقية) خدّاعة معبئة للقطيع ؛ في سبيل تحقيق مآرب النوّاب ومن لفّ لفّهم من الأوتوقراطية الحاكمة والأوليغاركية المتحالفة معها ، بحيث يستأثرون بـ (بيض الديموقراطيّة) ويخلّفون(الذروق) للجماهير! وهذا هو عين الإستبداد والفساد بالزيّ الديمقراطي الزاهي ، ولقد شخّص الكاتب الإيطالي أنطونيو تابوكي حقيقة أن نماذج كثيرة من القادة المنتخبين ديموقراطياً قد " شوّهوا الديموقراطية ، ومنهم موسوليني و سالازار" بحيث تحوّلت الجماهير إلى النزعة القطيعية ، وفي هذه الحالة تكف الأكثرية (المسنودة بالديموقراطية !) عن أن تكون على صواب ، حيث تسود الدكتاتوريات المستترة بالخطب الخداعة والشعارات البراقة ؛ للمتاجرة بالمباديء والقيم الإنسانية ، وها هو نوري المالكي (الفاشل على الصّعد كافة) يسعى إلى فرض دكتاتوريّته الطائفيّة المبطّنة بالشوفينيّة ، بل يسعى إلى إحتلال إقليم كردستان ، وجرّ العراق إلى شتى الويلات والأهوال ، لكنّما " التاريخ سيعيد نفسه كمهزلة " هذه المرّة .
  وبعد كلّ هذا لابدّ من التساؤل أيضاً:- يا ترى لماذا نجد أكثر مواطنينا ومثقفينا بالأخص راغبين عن ممارسة حقهم الديموقراطي في النقد من أجل الإصلاح ، ولايمارسونه ، في حين يكفله الدستور والقانون ، ويدعو إليه قادتنا السياسيون والإعلاميون باستمرار؟! هل بسسب اليأس من التغيير والإصلاح ؟ أم بسبب الخشية من العواقب المترتبة على تصدّهيم للظواهر السلبية ؟ يا لها من مفارقة ! إن أغلب مثقفينا الذين هم أصلاً من دعاة الديموقراطية يتحاشون ممارسة الحرية والديموقراطية المتاحتين دستورياً وقانونياً ، ومنها حقهم في الإعتراض والإستنكار و التظاهر...وهذا يعني أنهم يركنون إلى الماكيافيلية الدنيئة مفضلين ممارسة النفاق ، لاهثين وراء مآربهم الأنانيّة ، كما لو انّ كلّ شيء على مايرام ! إن للأديب مسؤولية هائلة ؛ إذا ما أدركها فعلاً ، واضعاً نصب عينه همّ مصير شعبه والبشرية ، لا الخنوع للأرباح الآنية الزائلة من مال و جاه وشهرة. وينبغي عليه أن يناضل خارج الإنضواء الحزبي ، الذي يفرض عليه (شاء أم أبى) العصبيّة الإيديولوجيّة " أنصر أخاك ظالماً أو مظلوماً" وإلاّ لن تتاح له أن يناهض ويدين شتى أشكال التسلّط والإضطهاد والإستغلال. وبهذا الخصوص يمكنني الإستشهاد بآراء ومواقف العديد من كبار الأدباء والفنانين (المناضلين) في العالم ؛ فقد فضّل جورج أمادو الكتابة خارج الحزب الشيوعي ، حين وجب عليه الإختيار بين الحزب والكتابة ، وقال ألبرتو مورافيا : " لاأعتقد أن الحزبية تناسب الكاتب ؛ إن الفنان مطلبه مطلق ، أمّا السياسي فمطلبه نسبيّ محدود" وقالت ماركَريت دوراس : " أنا مناضلة يسارية لاألتزم حزباً أو منظمة " وأخيراً وليس آخراً يقول راي براد بوري : " ...عرفت كيف أتحاشى الإنتماء الحزبي مع بقائي دائماً في قلب المعركة " أمّا العلّة الجوهرية فتتجلّى في قول الشاعر أوديسيوس إيليتيس : " كلّ أشكال السّلطة من طبيعتها أن تكون عدوّة للفن (...) لأن الفنان أساساً عند من هم في السّلطة شكّاك مريب وشخص خطير"...إن الأدب والفن الحقيقيين بمثابة دماغ المجتمع وروحه ، وفي غيابه يتخشّب المجتمع ، بل يتحيون ويتوحّش حتى لو رفل بآخر الموظات والكماليات ! وهنا " أصرّ على ضرورة أن يقوم المثقف بدور الفضّاح " كما شدّد غير مرّة ماريا فاركَاس يوسا ، أمّا "..أن تبقى صامتاً؛ فإنّ هذا لنوع من الإشتراك في الجريمة لايُطاق" كما يقول الطاهر بن جلون..
×  نراك دائماً كثير الإستشهاد بأقوال ومواقف الأدباء والفنانين العالميين ؛ أهو تصريف لخزين قراءاتك المتراكم ، أم ماذا ؟!
- سؤال إستدراكي مشروع ، وإليكم جوابه : لكي يدعم المرء آراءه ومواقفه ؛ وجب عليه الإستناد إلى آراء ومواقف مشابهة لها ، لاسيّما لأولئك المعلّمين الكبار سديديّ الخطى ، والإستشهاد بها بنزاهة وأمانة ، وليس بتحويرها وانتحالها كما دأب أدباء وفنانون على ذلك ، وما أكثرهم في كردستان ! كما أعتقد بتأثير تلك الآراء أكثر من آرائنا ؛ مادامت " مغنّيّة الحيّ لاتطرب" ! أمّا مسارب تصريف خزين قراءاتي المتراكم فهي ميسورة في مقالاتي ودراساتي وحتى قصائدي...ثمّ ما الضير في أن يستشهد الأديب بعصارة بعض قراءاته ، حتى  في هكذا مقام؟ ألسنا نتحاور في مضمار الثقافة ، أم في مضمار الرياضة ؟! لئن أتغيّا بلورة وتعزيز  وإيصال طروحاتي التي أؤمن بها ، والمنبثقة طبعاً من تجاربي المتواشجة مع مجمل التجارب والخبرات البشرية ، ولأنني لست ممّن يتوسّلون موقف " خالفْ ؛ تُعرفْ " حتى بالإنتحال ؛ بغية الشهرة ؛ فأنا بطبعي ملتزم بالأمانة المرجعيّة..وهنا ينبغي التمييز جيداً بين المبدعين الطلائعيين الحقيقيين وبهلوانيّ الموظات العابرة . أجل ؛ إنّ " كلّ إناء ينضح بما فيه" كما يقال ، وهنا سأتمادى بترديد ماقالته الشاعرة ماريان مور في صدد الإقتباس : " ..لو أردت قول شيء ما، وقاله شخص ما على نحو مثالي؛ عندئذ سأقبل به، لكن لابدّ من ذكر صاحب الفضل"  
× أين في رأيك موقع الأدب الكردي (المدوّن والشفاهي) في خارطة الآداب الشرقأوسطية؟
- لاشكّ في انه يتبوّأ المرتبة الرابعة باستحقاق بعد الآداب : العربية والفارسية والتركية. هذا ترتيب عام لايعني انعدام نصوص- ولو قليلة - ترقى إلى مصاف النصوص الراقية في العالم أجمع ؛ إذا ما قيّض لها تخطّي الغيتو والحصار اللغويين ، بالترجمة طبعاً ، ولكن أنّى له ذلك ؛ مادام جلّ المهيمنين على دفّات إدارات المؤسسات والمراكز الثقافية الكردستانية يفتقرون أصلاً إلى العقلية الستراتيجية النفاذة ؟! إنهم لايدركون أهمية فن الترجمة في إيصال الإبداعات الكردية حبيسة الغيتو اللغوي إلى فضاء الثقافة العالمية ، بل حتى في إطار لهجات اللغة الكردية نفسها ! للأسف الشديد أن أولاء ينظرون إلى المترجم باستعلاء سلطوي  بيروقراطي. ولذا بغياب الترجمة سيظل االأدب الكردي مجهولاً، وتخلو المعاجم والموسوعات الأدبية العالمية من الإشارة إليه وإلى أعلامه ، وتظلّ الثقافة الكردية مجهولة عالميّاً ومحرومة من الحوار الثقافي الحقيقي ، بل تختنق إبداعاتها في الغيتو : " إنّ ثقافة منعزلة لايمكن أن تستمر(...) فالثقافات التي تتحاور هي وحدها الثقافات الحيّة " كما يقول كارلوس فوينتس.
× فما العمل إذن ؟
- أرى من الضروري أن يضع القيّمون على المؤسسات والمراكز الثقافية الكردية سلّماً للأولويّات في الحراك الثقافي ، بصورة مبرمجة ، طبعاً بإيلاء المهمات للمؤهلين والأكفاء: توحيد اللغة الأدبية الكردية وإحياء الترث الكردي ، ثمّ  ترجمة الإبداع الكردي إلى اللغات الحيّة ، وترجمة الإبداعات العالمية إلى اللغة الكردية. فثمة منذ قرابة العقدين إهدارات هائلة في الأموال والجهود والأوقات تذهب غالبيتها إلى جيوب المختلسين وتهدر على السفاسف والترهات الباذخة ، في حين مازالت البصيصات الإيجابية قليلة جدّاً.  
× معروف عنك الإبحار والغوص اللغويان في بضع لغات وبالأخص في أعماق اللغتين الكردية والعربية ، فما مدى اغتناء نصوصك الإبداعية (لاسيّما الشعرية) بهذا المنحى ؟
- جليّ جداً أن التعددية اللغوية تعلّل رحابة وعمق عوالم شعراء العالم البارزين من القدامى والمحدثين ، بما في ذلك غزارة أشعارهم وتنوّع وتعددية ثيماتها. ولأن لحمة وسداة النص الأدبي من اللغة أصلاً ؛ فمن الطبيعي أن يغتني النص الإبداعي وأن يكون مرهفاً جداً؛ حين ينبثق من كدّ الإبحار والغوص اللغويين ؛ لأن النص الإبداعي في هذه الحالة يجسّد اللآليء المقتنصة من البحار الرحيبة والعميقة بعد لأي . فهنا مثلاً أتساءل : هل يستوي عالم أدونيس الشعري المتجسّد في معجمه اللغوي بالأخص في ( الكتاب أمس المكان الآن) (1465صفحة) وترّهات الشعارير والشعرورات هنا وهناك ؟!
× حسناً..على ذكر أدونيس ؛ يا ترى هل إلتقيته عند زيارته لكردستان ، وما هو رأيك بتصريحاته بخصوص الكرد والحضارة العربية ؟
- لكون أدونيس - رغم مأخذي على بعض مواقفه السياسيّة الخاطئة - في نظري شاعراً ومترجماً وباحثاً ومفكّراً كبيراً وأحد أساتذة الأجيال منذ أكثر من نصف قرن في مشهد الثقافة العربيّة ، فضلاً عن نصرته لقضية الكرد العادلة في الأزمنة السود ؛ فقد سعيت (رغم سوء صحّتي) إلى حضور الندوة المقامة له في اتحاد أدباء أربيل ، في (22 نيسان 2009) حيث أهديته نسخة من مجموعتي الشعرية (قصائد تأبى أيّ عنوان و...) لكن الندوة كانت فاشلة وتطغى عليها الإرتجالية والفوضى ؛ لكون المتحلقين به - بما فيهم عريف الحفل - كانوا ممّن يفتقرون إلى الإطّلاع التام على عالمه الشعري والفكري ، ولا أعتقد أن أشطرهم قد قرأ أكثر من ربع أعماله ، ناهيكم عن مدى فهمه واستيعابه...! أمّا بخصوص تصريحاته عن كردستان ، وبالأخص قوله : " أتمنى أن لاتصيب عدوى العرب الوسط الثقافي الكردي" فأقول أن مثل أدونيس مثل الضيف السائح ، الذي قضى بضعة أيام على الرحب والسعة في حفاوة بالغة من لدن المسؤولين الكبار من المثقفين والساسة ، وقرب الواجهات البراقة ؛ فمن الطبيعي ألاّ يشهد أيّة سلبيات تُذكر، بل يتصوّر الوضع يوتوبيا ! وهنا يكمن (كعب أخيل) ! أقول عن دراية معمّقة وواسعة بالثقافتين الكردية والعربية (تراثاً ومعاصرة) : ليت الثقافة الكردية تمتلك عشر انجازات الثقافة العربيّة وفاعليّتها. أمّا فيما يتعلّق برأيه عن الحضارة العربية على "انها في طور الإنقراض " فأحسبه طرحاً لأحد اجتهاداته ، وكلّ امريء حر في الإجتهاد، لكنّ أدونيس غير مصيب في اجتهاده هذا، ولا في تمجيده للغرب المنافق ، ولامجال في هذه الفسحة للنقاش والتفنيد.
× وما رأيك في قصيدته (جذر السوسن) ؟
- للأسف الشديد تكاد أن تكون ركاماً من خواطر مناسباتية سريعة غير متمثّلة شعريّاً ؛ إذا ماقورنت مع الدرر الأدونيسية المشهودة منذ عقود.
× وكيف ترى الإنتقادات العنيفة، التي تعرّض لها إثر زيارته لكردستان؟
- إنها انتقادات تعسّفية تشوبها العقد الشوفينية (العروبيّة) البالية، وهي نابعة من حكم الكيل بأكثر من مكيال. لقد تأخرت زيارة أدونيس لكردستان قرابة العقدين ، إذ كان المفروض به أن يزور كردستان في أواخر شهر كانون الأول /1992ضمن برنامج مهرجان المدى الثقافي(وقد كنت آنذاك ممثلاً لوزارة ثقافة الإقليم في تنظيم المهرجان وإعداد بعض ندواته) لكن أدونيس قد خيّب أملنا ولم يحضر، ربّما لاحترازه من العواقب الإنتقادية المتوقعة أكثر من الآن. في حين زار الشاعر الكبير سعدي يوسف (أول منتقدي أدونيس الآن) كردستان في خريف 1992ولفترة طويلة قياساً بزيارة أدونيس شبه الخاطفة! بل أشاد بوضع كردستان عبر ملف كبير لجريدة (الفكر الجديد) لـ (حشع) على ما أتذكّر.
* في عالمنا الراهن ، حيث تطغى السياسة والتكنولوجيا والعولمة الإقتصادية ؛ أين يجد المثقف (الأديب بالأخص) نفسه ، وكيف يمارس دوره المطلوب ، وخاصة مع الترويج لطروحات حقوق الإنسان ؟
- عالمنا الراهن تتفاقم فيه النزعة الإستهلاكية ، وتسوده قيم المصالح الشخصية ومكاسب المقايضة ، وقد بات جليّاً لذوي الألباب أن كلتا السياسة والتكنولوجيا المشفوعتين بالإقتصاد المعولم راحت تدجّن البشرية لمقاصدها البراغماتية الجشعة ، ولاتبالي بمصير الروح الإنسانية ، في بحبوحة المنافع الآنية ؛ وبذلك يفقد الإنسان إرادة تقرير مصيره ويتشيّأ ويتحوّل إلى مجرّد رقم ، وأداة بخسة الثمن ، رهن آليّة الماكنة الإقتصادية المروّجة للنزعة الإستهلاكية ، والتي تحدوها السياسة الرامية إلى خصخصة كلّ شيء ، مع إهمال بناء الإنسان معنويّاً ، وهنا أيضاً تكمن المفارقة التراجيكومية ؛ حيث يطغى التبجح والتشدّق بطروحات حقوق الإنسان ، مع التركيز على الحرية الجنسيّة (الإنفلات الجنسي الحيواني) بالذات ، بغية إلهاء الإنسان وتخديره وإبعاده عن القضايا المصيرية ؛ وهكذا فإنّ " هرّ العولمة سوف يلتهم حقوق الإنسان " حسب التعبير الرائع لخوزيه ساراماكَو!
* ما أشدّ تشاؤمك !
- أعتقد مع ساراماكَو " ان التفاؤل شكل من أشكال الغباء" في هكذا وضع ، بل أن " التفاؤل أفيون الشعوب " ( من الجمل التي أرسلها تلميذ يافع مداعباً صديقته الستالينية ، في رواية المزحة لكونديرا) بينما للتشاؤم فاعلية إيجابيّة ؛ حيث يحرّضنا على انتقاد الأوضاع السيئة ، والإنتفاض ضدها وإصلاحها. وهنا أضيف مع نورمان مايلر : " إن كلّ حياتنا أفسدتها التكنولوجيا الحديثة ، التي لم تتطوّر أصلاً لخدمة الإنسان ، بل لخدمة الحرب" أجل..فلو صرفت الجهود والأموال والأوقات المهدورة على صناعة وتطوير وشراء الأسلحة ، والبرامج النووية الخطيرة ، بل وخيمة العواقب ، خلال القرن العشرين والعقد الأول من الألفيّة الثالثة ، لو صرفت بعقلانية وإنصاف في المسارب السلمية ؛ لتلافينا أكثر من ثلاثة أرباع الشرور على كوكبنا ، وتمتعت البشرية بالوئام والسعادة طوال الألفيّة الثالثة !
* طيّب ، وماهو دور الأدب إذن ؟
- مع تشخيص دور الأديب ومسؤوليته خلال الإجابة عن أحد الأسئلة السالفة ، أشدّد مع إسماعيل كاداريه " لامعنى لأيّ أدب ؛ إذا لم يكن دفاعاً عن الحريّة ، وإنّ لامستقبل للثقافة دونها " ولكن شتّان مابين الحريّة الحقيقية والحرية الزائفة ، وإنّ " للمثقفين الحق في التفكير بالمستقبل ، عليهم ألاّ يخشوا التعامل مع المستقبل ، وأن يتخيّلوا كيف يمكن أن يكون" كما يرى فاسلاف هافل.
* وما هو دور الصحافة في هذا المضمار، بصفتك  صحافيّاً ؟
- في الحقيقة لست صحافيّاً بالمفهوم الحرفيّ للصحافة ، وإنما أديب ومترجم أضطرته الظروف إلى العمل الصحافي (الثقافي) ولقد أدركت وأيقنت جيّداً بالتجربة والمعاينة المتواصلتين عبر عقود أن النشر الورقي ، في بلد مثل العراق ، يخذل ، بل يهين كرامة المبدعين ؛ مادامت تهيمن السياسة ومافياتها (من ذوي المواهب المعدومة أو المتواضعة ، والحسّاد والأنانيين المتعطشين للإستحواذ على كلّ شيء والشهرة) ناهيكم عن أن الصحافة في العالم أجمع غالباً ما تعنى بالأخبار المثيرة الجذابة ونجوميّة الفسفسبهلوانات ، حيث تحوّلت إلى أفضل حاضنة للشهرة الإعلامية  والقشور والتفاهات ؛ فـ " المجتمع الحديث يشجع التفكير الصحفي (...) وهو تفكير سريع . إنه لايسمح بالفكر الحقيقي " كما يؤكّد كونديرا، بالإضافة إلى أن " العصر الذي نعيش فيه (...) يؤلّه البضاعة " على حدّ قول بن جلون. وعليه هل تتصوّرون أن الصحافتين العراقيّة والكردســـتانية ( الحزبيّتين عموماً) يمكن أن تتيحا المجال لأدبائنا وباحثينا المبدعين ما أتاحته الصحافة العالمية لهيمنكَواي وكَراهام كَرين ويشار كمال وماركيث ؟! أما ترى احتكار مناصب الهيئة الإدارية لنقابة صحفيي إقليم كردستان لأنفار معدودين محددين بالتعيين حسب المحاصصات الحزبيّة وقاعدة التوافق الذهبيّة منذ أكثر من عشر سنوات ؟ يا لها من ديموقراطيّة تتمتع بها صاحبة الجلالة (الصحافة)! أليست هذه ديموقراطيّة (القونطرات الحزبي) والإستحواذ والإحتكار؟
× حقاً انك مثقف جريء لاتخشى سطوة متسلّط ، ولاتهمّك لومة لائم !
- ثق وصدّق أن تقييمي لوضعنا الثقافي هو " أضعف الإيمان" وغيض من فيض! يجب على مثقفينا الأحرار أن يتحدوا (من التحدّي) ويتصدّوا للفساد الثقافي المستشري ويقولوا الحقيقة كاملة ، رغم أنوف أمثال (جدانوف) و(بيريا) بين المحيطين بالقادة الكرد والعراقيين ؛ وإلاّ فـ " إنّ نصف الحقيقة أبشع من الكذب " كما يقول أناتولي ريباكوف، فإذا ضاقت منابر النشر الورقي ؛ فهناك صفحات النت الواسعة قاهرة الدكتاتوريات والمافيات والمسافات ، وهي أرحم ملاذ للمبدعين المغدورين بالأخص ؛ فلولاها لضعت وأمثالي حتى الأبد.
×  لنعد إلى حيث بدأنا ، ألم تخش الموت المحتمل من جرّاء تلك العملية المعقدة لقلبك؟
- كلاّ ، لم تساورني أية خشية ؛ لكوني متعايشاً مع الموت منذ طفولتي ، وواع لحقيقته بصفته - حسب قناعتي - نوماً هانئاً طويل الأمد ، حتى النشور والرحمة الإلهية ، أو العدم المؤبّد ! ثمّ إنني لست أوّل ولا آخر من يموت ، فقد مات وسيموت المليارات من البشر من قبلي ومن بعدي ، ولا أحد يحيا إلى الأبد سواء أكان إمبراطوراً أو شحّاذاً ، إنّما الحكمة كلّ الحكمة في استثمار العمر المتاح لتحقيق إنسانيّة الإنسان ؛ بغية قهر محدودية العمر، ونيل الخلود بشكل من الأشكال غيرالجسديّة. صدّقوني كنت أمازح الذين همّوا بتخديري قبيل العملية الجراحية ، ممّا أثارالأمر تعجبهم ، ثم مازحت المحيطين بي عند استفاقتي (عودتي من الموت المؤقت) بعد عشرين ساعة ، ولم أكف عن القراءة والكتابة قبل العمليّة ولا بعدها، كما لو كانت صحتي طبيعية ، رغم آلامي المبرّحة ، وأنا نزيل مستشفى عمّان لتسعة أيام وسبعة أيام بعد الخروج ، حيث كانت فترات نومي قصيرة جدّاً.
× يا ترى ماذا كتبت وماذا قرأت خلال تلك الفترة ؟
- كتبت بضع قصائد ، تخصّ إحداها الأستاذ الدكتور الجرّاح العبقري يوسف القسوس ، ومسوّدة أوّليّة لريبورتاج عن (جمعيّة صلاح الدين الأيّوبي الخيريّة) كما قرأت الكتب الآتية : الزردشتية ، ر.س. زيهنير، ترجمة: د. سهيل زكّار(530 ص)/ كوجيكي الكتاب الياباني المقدس ، ترجمة: د. محمد عضيمة (335 ص)/ الزندقة ماني والمانوية ، جيووايد نغرين ، ت: د. سهيل زكّار(305 ص)/ التلمود ، ت: د. شمعون يوسف مويال (171ص)/ من حديث الشعر والنثر، طه حسين(174ص)/ و ميناتورهاى مكتب ايران و هند....استوارت كرى ولش و يحيى ذكاء(90 ص ، نصفها ألبوم صور) هذا فضلاً عن قراءات مسائية وصباحية لسور من القرآن الكريم ، الذي أسعفني به صديق دراستي في الطفولة والصبا الدكتور خالد حسن الجاف الأستاذ في جامعة الزيتونة بعمّان ، حيث فاتني اصطحابه معي كديدني في أسفاري ؛ بسبب حالتي الصحّيّة والعجالة اللتين طغتا على سفرتي . وقد سادت الحالة نفسها وضعي في الأردن ، حيث تعّذر عليّ إجراء تحقيق عن (مؤسسة الشومان) وزيارة مثوى الشاعر الكبير عرار (مصطفى التلّ) في اربد. 
× ما أعجب وأغرب شغفك وولعك بالقراءة !
- ومع ذلك لم أرتشف لحدّ الآن غير قطرة من بحر مايستوجب القراءة ! إن ثالوث القراءة والحب والكتابة هو بمثابة أوكسجين حياتي منذ الصبا.
× حسناً بمن تأثرت أكثر من أدباء العالم وفلاسفته ؟
- بأعمال المئات من المبدعين ( من أدباء وفنانين وفلاسفة..) وقلائل من الساسة ، وقد لايبدو التأثير عياناً  في شعري مثلما الحال في مقالاتي ودراساتي واختياراتي الترجمية.
× حبّذا لو ذكرت بعض الأسماء.
- لايشفي غليلي ذكر أقل من أربعين إسماً ، ويتعذر ذلك في هذه الفسحة الضيّقة ؛ فموضوع قراءاتي  وتأثرتي يحتاج في حدّ ذاته إلى حوار طويل ، بل إلى كتاب لايقل عن مائة وخمسين صفحة.
× هل أنت فعلاً أديب عصاميّ النشأة ؟
- بل ومن بيئة مسحوقة وكادحة جداً، حيث لم تتعد سنوات تعليمي ودراستي إثنتي عشرة سنة ، وهي بمثابة (محو أمّيّة) بالقياس مع الدراسات التخصصية الجامعيّة والعليا ، وهنا أقول مع يشار كمال : " إنه لشرف لي أن أكون قد صنعت نفسي بنفسي" ومعه أتساءل أيضاً : " وهل ثمة كاتب تعلّم الكتابة في المدرسة ؟!" وأضيف أيضاً متسائلاً : - يا ترى هل أصبح جميع خريجي (معهد كَوركي) طوال عقود - وهم بالآلاف المؤلفة - أدباء مبدعين ؟! ثمّ هل يصبح خريجو كليّات اللغات الأجنبية - وهم بالآلاف سنويّاً – مترجمين ، ولو بدرجة مقبول ، اللّهمّ إلاّ القلائل من الموهوبين والمثابرين ؟!
× هل عندك طقوس خاصة للكتابة ؟
- وهل تكون لمثلي الذي عاش دائماً حياة غير مستقرة طقوس كتابة ؟! إنه لمن حسن حظي أن الفوضويّة (وأحسبها خلاّقة) تسود حالات كتابتي ( الشعر بالأخص) في حين تحظى قراءاتي بشيء يسير من البرمجة ، طبعاً حسب الظروف السانحة.
× إستلفت نظري ابتكارك لمفردة عفلقزاده وغيرها كثير على حد اطّلاعي...
- ملحوظة سديدة ، فثمة الكثير مما ابتكرته ، فمثلاً قمت بتصريف لفظة (الأنفال) مشتقاً منها: يؤنفل ، يتأنفل، مؤنفل ، مؤنفلة ومؤنفلون...،في قصائدي ومقالاتي المنشورة بعد انتفاضة1991
× بخصوص إعداد كتبك للنشر ستبدأ بأيّ كتاب بعد فترة النقاهة ؟
- سأبدأ بتحقيق وترجمة ديوان الخيّام الأصيل(قطعه الشعرية العربيّة والفارسيّة ورباعيّاته الأصيلة غير الدخيلة) ولي في الحقيقة مشروع أربعة كتب أخرى وربّما أكثر تخص الخيّام ، وبعده كتابي عن الشاعر الإسباني الأشهر في القرن الخامس عشر خورخيه مانريكي ، ثم ترجمتي لمجموعة شعريّة لمحمود كيانوش أكبر شاعر إيراني حي من الجيل التالي للرائد نيما يوشيج ، ثمّ إعداد مختارات من القصة القصيرة الكرديّة لنشرها في المغرب ، ثم ترجمة (حيدر بابا سلام) للشاعر الآذري شهريار، ثمّ ترجمة الملحمة الآشوريّة (قاطينا) و هلمّ بنا جرّاً....
× حمداً لله استجبت لهذا الحوار ؛ لكونك معروفاً بتحاشي وتفادي الحوارات والمقابلات ، وأعتقد أنه قد راق لك
- من المفارقات الثقافيّة انّ أغلب الصحافيين الذين يقومون بالحوارات والمقابلات جهلة ثقافيّاً وطفيليّون ، أو أشباه جهلة لايجيدون فن الحوار، بل إعداد بضعة أسئلة مناسبة ! ثم إنني أجتنب الحوارات والمقابلات ، حيث تستفز وتثير تصريحاتي وآرائي الحرّة غير المنافقة حفيظة مثقفي ( بالأحرى موظفي) الأحزاب والمؤسسات الثقافية ، بسبب جهلهم وخبثهم . وبهذا الخصوص أتساءل مع أنطونيو تابوكي : " هل ثمّة أبشع من أن يصبح الكاتب كاتباً (رسميّاً) كاتب نظام ؟! كتّاب النظام الذين شهدهم العالم عار على الكتابة !" فلاعجب إنْ فضلت كتابة المقالات والدراسات لعرض آرائي وأفكاري ، ونشرها على صفحات النت ؛ كلّما ضاق بها النشر الورقي ، ولاريب في إنّ إنجازاتي الأدبيّة والفكرية ، رغم ظروفي اللامؤاتية ، تضيّق الخناق على بؤس الجحوش والعفلقزادات. أمّا هذا الحوار فلا بأس به ، وقد دار في فلك العموميّات شأنه شأن بضعة حوارات سابقة. إنني أتمنّى حواراً يتناول كوني شاعراً ويدور في صلب عملية الخلق الشعري ، بل حوارات أخر بخصوص الخيّاملوجيا وووو العديد من مشاريعي الأخطبوطيّة !
× أتمنى أن يتصدّى من هو مؤهّل لذلك ، ختاماً شكراً لأديبنا زنكَابادي على هذا الحوار الساخن الممتع، هل من كلمة أخيرة ؟
- شكراً لتحمّلكم طروحاتي ، ليس لي سوى شرط جوهري ، ألا وهو نشر الحوار كما هو بلا أدنى تصرف، وبعكسه فالأفضل ألاّ يُنشر، وإذا ما نُشر بتصرّف ؛ فسأعيده نشره كما هو على صفحات النت ، كما فعلت مع حوار آخر أجرته معي جريدة (طريق الشعب) وأتمنى أن يمارس الصحافيون حقهم الديموقراطي الذي يكفله الدستور والقانون ، ويدعو إليه قادتنا السياسيون الكبار دائماً ؛ لأنهم يدركون جيداً بأنه لاتقوم للديموقراطية قائمة ، ولا للإصلاح فرصة دون وجود الرأي المختلف واحترامه ، ومناقشته حجة بحجة.   
(أواخر آب 2009 – أوائل2010) *
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* للأسف الشديد خذلني المتحاورون معي ؛ حيث لم ينشروا غير نحو ثلث الحوار بإنتقائيّة شوهاء ، بل بإسم مستعار ؛ لربّما خشية العقبى الوخيمة ؛ ولذا وجدت ألاّ مناص من تثبيت أسمائهم بصيغة (؟!) وعليه وجب التنويه (ج . ز)